الصين في قلب التحول الاقتصادي للشرق الأوسط
في العقد الأخير، لم تعد الصين ضيفاً اقتصادياً عابراً في الشرق الأوسط، بل أصبحت فاعلاً محورياً في رسم ملامح التحول الاقتصادي في المنطقة. فقد تحولت العلاقة بين الجانبين من تبادل تجاري محدود إلى شراكات استراتيجية عميقة تتقاطع فيها المصالح في مجالات الطاقة، والبنية التحتية، والتكنولوجيا، والتمويل، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة.
هذه التحولات ليست وليدة اللحظة، بل هي ثمرة رؤية صينية طويلة المدى تترجمها مبادرة "الحزام والطريق”، التي تحولت إلى مظلة كبرى تستوعب طموحات بكين في بناء شبكة من المصالح الاقتصادية العابرة للقارات. وتشير أحدث تقارير المبادرة لعام 2024 إلى أن الصين استثمرت نحو 121.8 مليار دولار في 149 دولة، منها قرابة 39 مليار دولار في الشرق الأوسط، وهو رقم يعكس بوضوح تنامي شهية الصين الاستثمارية في المنطقة.
تسعى الصين من خلال هذا التوجه إلى تأمين احتياجاتها الاستراتيجية من الطاقة، وتنويع أسواق صادراتها، وبناء روابط اقتصادية مستدامة تتجاوز حدود التجارة التقليدية. وفي المقابل، وجدت دول الشرق الأوسط، وخاصة السعودية والإمارات ومصر، في الصين شريكاً اقتصادياً سريع التنفيذ، منخفض التكلفة، وذا قدرة تمويلية مرنة، يساعدها على تسريع خططها التنموية الطموحة مثل "رؤية السعودية 2030” و”استراتيجية الإمارات للخمسين عاماً المقبلة”.
لكن الأهم من حجم الصفقات هو نوعية الشراكات التي أخذت تتشكل مؤخراً. فبعد مرحلة المشاريع الإنشائية، اتجهت العلاقة إلى الاستثمار المشترك في الصناعات المتقدمة والطاقة النظيفة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، مشروع البتروكيماويات المشترك بين "أرامكو” و”سينوبك” بقيمة 10 مليارات دولار، واتفاقية تصدير الغاز الطبيعي المسال بين شركة ENN الصينية و”أدنوك” الإماراتية لمدة 15 عاماً، وهي صفقات تؤسس لروابط اقتصادية طويلة الأمد تتجاوز التبادل التجاري إلى بناء تكامل صناعي حقيقي.
ولا يمكن تجاهل أن هذا الزخم يأتي في لحظة عالمية تتسم بتغير موازين القوى الاقتصادية. فبينما تشهد الاقتصادات الغربية تباطؤاً نسبياً، تمضي الصين نحو إعادة تشكيل دورها العالمي عبر الاستثمار في التكنولوجيا والطاقة الخضراء، حيث تجاوزت استثماراتها في الطاقة النظيفة 625 مليار دولار في عام 2024، لتصبح أكبر منتج عالمي للتقنيات الخضراء، وهو مجال يُتوقع أن يكون محور التعاون القادم مع دول المنطقة، خاصة في مشاريع الهيدروجين الأخضر والمدن الذكية والطاقة المتجددة.
ومع ذلك، فإن نجاح الشراكة العربية–الصينية لن يُقاس فقط بحجم الأموال المتدفقة، بل بقدرتها على خلق أثر تنموي حقيقي ومستدام. فالشركات الصينية تتميز بسرعة الإنجاز والتكلفة المنخفضة، لكنها بحاجة إلى العمل في إطار يضمن نقل المعرفة والتكنولوجيا، وتوطين العمالة، وبناء القدرات المحلية، حتى تتحول المشاريع إلى قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد العربي.
من موقع المراقب والمحلل للعلاقات الاقتصادية بين الجانبين، أستطيع القول إن التحدي الأكبر لا يكمن في جذب الاستثمارات الصينية، بل في حسن إدارتها وتوجيهها بما يخدم الأهداف الوطنية للتنمية. المطلوب ليس المزيد من العقود، بل المزيد من الشراكات النوعية التي تبني المعرفة وتفتح آفاق الابتكار المشترك.
إن مستقبل التعاون العربي–الصيني يبدو واعداً، لكنه يحتاج إلى نقلة نوعية في التفكير والتخطيط، بحيث تنتقل المنطقة من موقع المستفيد السلبي إلى شريك استراتيجي مؤثر في بناء اقتصاد عالمي جديد متعدد الأقطاب. فالصين تبحث عن شركاء لا عن عملاء، والشرق الأوسط يملك المقومات ليكون شريكاً فاعلاً في هذا التحول التاريخي، إذا ما أحسن استثمار اللحظة وصاغ معادلة شراكة قائمة على الندية، والرؤية، والابتكار.
وهكذا، يبدو أن الصين لم تعد مجرّد "مقاول دولي” في مشاريع الشرق الأوسط، بل أصبحت شريكاً في صياغة مستقبل الاقتصاد الإقليمي، في وقت تتجه فيه بوصلة النمو العالمي شرقاً. ومن يدرك هذا التحول العميق، سيعرف أن الفرص لا تُصنع في الصفقات فقط، بل في بناء الثقة المتبادلة والرؤية المشتركة للمستقبل.








