علم التجهيل وصناعة الكذب: من غوبلز إلى الهيمنة الصهيونية الحديثة
اللواء المتقاعد د. موسى العجلوني
جو 24 :
يُعدّ "علم التجهيل" (Agnotology) الذي ابتكر مصطلحه البروفيسور الأمريكي روبرت بروكتر من جامعة ستانفورد الأمريكية، أحد أخطر أدوات السيطرة التي ابتكرتها الأنظمة الاستعمارية والإمبريالية لتوجيه وعي الشعوب وإعادة تشكيل إدراكها للواقع من خلال نشر معلومات تبدو على أنها علمية ولكنها مزيفة ومضللة. إنه ليس جهلًا طبيعيًا ناتجًا عن نقص المعرفة، بل جهلٌ مُصطنع، تُنتجه منظومات إعلامية وتعليمية وسياسية وفكرية واقتصادية هدفها إبقاء الشعوب في حالة وعي مشوه، عاجزة عن التمييز بين الحقيقة والزيف. وهكذا تحوّل التجهيل إلى صناعة استراتيجية تخدم مصالح الهيمنة والنفوذ.
وقد كان وزير الدعاية النازي جوزيف غوبلز أول من نظّر لهذا الأسلوب حين قال عبارته الشهيرة: "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس". لقد حوّل غوبلز الإعلام إلى سلاحٍ نفسي خطير، يزوّر الوعي الجمعي، ويُبرّر الجرائم باسم الوطنية والحق التاريخي. وهكذا تأسس ما يمكن تسميته اليوم بـ "صناعة الكذب السياسي"، التي طوّرها الغرب لاحقًا بأدوات أكثر نعومة وتأثيرًا عبر الإعلام العالمي ومراكز الفكر.
بعد الحرب العالمية الثانية، ورثت الولايات المتحدة هذا الإرث الدعائي، فأنشأت مراكز وأجهزة إعلامية وأمنية متخصصة في توجيه الرأي العام العالمي، مستخدمة الأكاذيب لتبرير سياساتها الخارجية والتدخل في شؤون الدول الأخرى. ومن أبرز أمثلة هذه الصناعة: كذبة أسلحة الدمار الشامل في العراق التي مهّدت لغزوه وتدميره، وصناعة "القاعدة" و"داعش" وتضخيمها لتشويه صورة الإسلام المقاوم، ثم حادثة 11 أيلول 2001 التي صُنعت واستُغلت لإطلاق ما سُمّي "الحرب على الإرهاب" واستباحة العالم العربي والإسلامي.
لقد كان الهدف الحقيقي من كل هذه الأكاذيب هو خلق عدو وهمي جديد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، فصُنع "العدو الإسلامي" تحت مسميات "الإسلام السياسي" و"الأصولية المتطرفة"، لتبرير الهيمنة الغربية وضرب حركات التحرر الوطني والمقاومة، خصوصًا المقاومة الفلسطينية.
أما في الجانب الصهيوني، فقد أتقنت دولة الكيان استخدام الكذب الممنهج والتجهيل الديني والسياسي منذ نشأتها. فقد روّجت للعالم الغربي أنها "الضحية الأبدية"، مستغلة مايُسمى بمأساة "الهولوكوست" لتبرير احتلال فلسطين وتشريد شعبها، بينما صوّرت الفلسطينيين ضحاياها على أنهم "إرهابيون" و"مخربون". كما استخدمت تهمة العداء للسامية كسلاحٍ قمعي ضد أي صوتٍ يحاول كشف حقيقتها أو انتقاد جرائمها.
ولم تكتفِ الصهيونية بالكذب السياسي، بل مارست التزييف الديني أيضًا عبر ما يُعرف بـ "المسيحية الصهيونية" المنتشرة في الولايات المتحدة وأوروبا وبشكل خاص عبر المسيحية "البروتستانتية"، والتي تربط عودة المسيح بإعادة بناء "الهيكل الثالث" في موقع المسجد الأقصى، وإقامة "إسرائيل الكبرى". وهي معتقدات تستند إلى روايات تاريخية ودينية مزيفة لا اساس لها، وإلى تأويلات منحرفة تهدف إلى تبرير التوسع الاستيطاني والهيمنة الصهيونية باسم النبوءة الإلهية.
ويمكن القول إن أخطر مظاهر التجهيل تمثلت في تقسيم العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى إلى دولٍ صغيرة شبه مستقلة، لكل منها حدودها وعلمها وجنسيتها وجواز سفرها واقتصادها ، تخاف من جارتها أكثر مما تخاف من عدوها. لقد كانت تلك التجزئة أعظم صناعة استعمارية للجهل والكذب السياسي، ضمنت بقاء الأمة العربية ضعيفة وممزقة، تخضع لهيمنة امريكا وأوروبا باسم "الاستقلال" و"السيادة".
لكن مع تطور وسائل الاتصال ووعي الأجيال الجديدة، بدأت هذه الأكاذيب تتهاوى. فقد كشفت حرب الدولة الصهيونية المدمّرة على غزة التي استهدفت الإنسان الفلسطيني وكل مقومات حياته والتي لم يشهد التاريخ الحديث مثيلا لها، زيف الرواية الصهيونية. لقد اظهرت مجازر دولة الكيان للعالم الوجه الحقيقي للاحتلال المجرم، فانقلبت الصورة: من كان يُظَنّ أنه ضحية، تبيّن أنه الجلاد عدو الإنسانية، ومن كان يُتَّهَم بالإرهاب، أصبح رمزًا للمقاومة والصمود الأسطوري والكرامة الإنسانية.
وهنا تبرز المقولة الخالدة التي تلخص مسار التاريخ الإعلامي والسياسي الحديث: "تستطيع أن تكذب على كل الناس بعض الوقت، وأن تكذب على بعض الناس كل الوقت، ولكن لا تستطيع أن تكذب على كل الناس كل الوقت".
وفي الختام، لقد انكشفت الأكاذيب، وتهاوى علم التجهيل أمام وعي الشعوب وخاصة الشباب من جيل "الفا" و"زد"، وبدأ الوعي العالمي الجديد يتشكّل وتسقط معه منظومات التزييف واحدة تلو الأخرى، وبدأ العقل والضمير الجمعي للشعوب بالتحرر من سطوة الكذب وصناعة الوعي الزائف. فهل تلتقط ذلك منظومة الإعلام العربي الرسمي والشعبي لتتبنى هذا التحول وتستثمره وتبني عليه لصالح قضايا الأمة العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية؟ ام تترك الميدان خاليا لمنظومة الدعاية الصهيوامريكية لتقوم بترميم صورتها وستر عورتها التي حطمها وكشفها طوفان الأقصى؟








