jo24_banner
jo24_banner

ماتت صفاء!

كمال ميرزا
جو 24 :
 
ينخلع قلبي عندما تغيب، وكثيراً ما كانت تغيب!

أبقى مهموماً أفكر بها حتى لو تظاهرتُ بخلاف ذلك، أو تشاغلتُ بما ينشغل به الناس عادةً في حياتهم اليوميّة!

ـ صفصااااف.. صفصااااف..

أحاول البحث عنها بـ العقل" لتجنّب الحَرَج أمام الآخرين:

ـ "ما هذا الرجل الأربعينيّ السفيه الذي يسير في الشارع، أو يقف على الناصية، ينادي على قطّة"؟!

بالنسبة لي لم تكن مجرد قطّة، كنتُ أنظر إليها ككيانٍ مكتملٍ وندٍّ ومكافئٍ، وأقرب إلى أخت كبيرة لم أحظَ بها، أعلم يقيناً أنّها تحبّني وتحنحن عليّ، ولكنّي في نفس الوقت أخشى من سطوتها ونظراتها وحكمها وأن أخذلها أو أخيّب ظنّها!

لستُ بتفاهة أن أساوي بين الحيوان والإنسان، أو أنّ أُسبّق حيواناً على إنسان.. ولكن وجدانيّاً، بيني وبين نفسي، كنتُ أكِنّ لها حبّاً لا أكنّه لكثير من البشر!

يُقال أنّ الحيوانات لا تملك وعياً بالذات أو إحساساً بـ "الأنا"، ولكن هذا لا يعني أنّها لا تمتلك شخصيّاتها المتمايزة!

كانت ذات شخصيّة قويّة مستقلّة، معزّزة بذكاء استثنائيّ، أذكى قطة عرفتُها في حياتي، لا تستطيع أن تخدعها، أو على الأقل أن تمرّر عليها نفس الخدعة مرتين!

كما كانت خانم، خانم حقيقية، "صَفصَف خانم"، بصورة تصل حد الأنفة والأنزعة؛ لا تزاحم بقيّة القطط على الطعام، ولا تأكل من طبق زاحمها عليه قط آخر، ولا تنبش في النفايات وخشاش الأرض، ودائماً نظيفة وأنيقة ومهندمة أسكنتَها في شقّة، أو في عمارة عظم قيد الإنشاء، أو في حوش مُشرَع!

طوال عمري أحبّ القطط، ولكن لم يخطر ببالي يوماً أن أربّي قطّة، خاصةً وأنّ هذه مسألة محسومة على مستوى العائلة: ممنوع القطط داخل المنزل.. إلى أن أتت صفاء!

عثرتْ عليها صديقة مقرّبة هي وابنة أخيها "كمشة" لحم وفراء بالكاد بلغت سن الفطام تتكوّر مرعوبة وسط الشارع على إحدى إشارات "الدوار الثامن" المزدحمة بانتظار الدهس في أي لحظة!

أوقفتا السيارة والسيرَ وراءهما، وأنقذتا القطة الصغيرة من براثن العجلات وسط استياء بقية السائقين وقلّة صبرهم و"زواميرهم" العالية!

وبكوني الأقرب سُكنى إلى الموقع، اتصلت بي الصديقة المقرّبة، أو بالأحرى التي كانت مقرّبة، واستمسحتني أن تحضرها إليّ بكونها لا تستطيع اصطحابها معها.. وهذا ما كان!

أبقيتُها في غرفتي لتجنّب سخط بقية أفراد العائلة، وهي من جانبها لم تكن تريد الخروج من الغرفة لِمَا كانت تشعر به من رعب، وقد استدعت المسألة سنوات عديدة لكي تستطيع أن تتجاوز بالتدريج مخاوفها و"فوبياتها" من دون أن تتخلّص منها نهائيّاً:

تخاف من صوت السيارات حتى ولو من بعيد..

تخاف من بقيّة القطط، وفي مرحلة لاحقة تأنفها..

تخاف من الآخرين؛ حيث بقيت حتى سنّ متقدمة لا ترضى بأن يقترب منها أحد غيري أو يربت عليها، وإذا أتاني زوّار تهرب وتختبئ حتى يغادروا، وإذا لم يكن هناك مجال للهرب تتسلق عليّ وتلتفّ حول عنقي مرتعشةً وتنشب أظفارها في كتفي!

كانت تعتبرني أمّها حتى بعد أن بلغتْ سنّ الرُشد بأعمار القطط، وكانت مثل سائر القطط التي فُطمت مبكّراً أو اختبرتْ اليُتم مبكّراً تتحيّن أي فرصة لكي تنقض على باطن ذراعي ترشفها، بينما تقبض بمخالبها على لحمي العاري وترخيه في حركة تُحاكي عملية الرضاعة عند القطط الصغيرة!

من عجائبها أيضاً أنّها نجت من طاعون القطط، وهو مرض فرص النجاة منه بالنسبة لأي قطّة تكاد تكون معدومة!

نجت بطريقة أدهشت الطبيبة البيطريّة المُعالِجة، فهي لم تفقد انتباهها وتركيزها للحظة بخلاف القطط التي تصاب بمثل هذا المرض!

الصعوبة الوحيدة كانت أنّ تلك هي أول مرّة تضطر فيها للابتعاد عني وعن البيت، لذا فقد "صرصعت" الجميع بموائها كمن تنادي أو تستدعي أو تستغيث، وهو المواء الذي لم يتوقّف إلّا عندما أتيتُ إلى العيادة في اليوم التالي للاطمئنان عليها، وصعدتُ الدرج، وناديت اسمها: "صَفصَف"، وناولتها ذراعي لترتشفها بجنون أبقى علامات وخدوش احتاجت أياماً طويلة لتشفى وتزول!

# # #

ينخلع قلبي حين تغيب، ولكنّها عوّدتني مع الوقت أن أراهن على ذكائها وحنكتها وقدرتها على التصرّف والبقاء؛ فهي لا تبتعد إطلاقاً، ولا تُقدِم على خطوات متهوّرة أو غير مدروسة، سواء في قطع الشارع، أو في التعامل مع الآخرين والاقتراب منهم و"التأمين" لهم.. وفي أغلب الأحيان تكون قد علِقت على سطح الجيران، أو في شقة أبنائهم المغتربين في الخارج، حين يدفعها فضولها المزمن لاستغلال الفرصة، والولوج خلسةً عبر بيت الدرج حين تفتحه "الخدّامة" لنشر الغسيل أو تهوية الشقّة المغلقة!

مرّةً أطلّت عليّ مناديةً من حمّام الجيران!

هذه المرّة خاب رهاني!

في داخلي كان هناك هاجس مُلحّ يحدّثني أنّ هذه الغيبة غير، ولكنّني كنتُ أحاول إقناع نفسي بتجاهله.

على مدار ثلاثة أيام قمتُ بالإجراء المعتاد: خرجتُ وناديتُ عليها في محيط الحارة، وتفقّدتُ الأرض الترابيّة جوار البيت وحاويات القمامة حيث اعتاد بعض السائقين المارّين بشارعنا إلقاء القطط بعد أن يدهسوها بسرعاتهم غير المبرّرة وإهمالهم ولا مبالاتهم!

لا أدري ما الذي دفعني للخروج أمس عند منتصف الليل، وتوسيع دائرة بحثي قليلاً، لأجدها هناك غير بعيد!

كانت جوار كندرين الشارع، عند المدخل الجانبيّ لموقف السيارات أمام النادي الأهلي، ترقد جثةً هامدةً مسحوقة الأضلاع تحت كتلة من الإسمنت كتلك التي يصنعها البعض ويغرسون فيها أنبوبا بلاستيكيّاً لتكون نوعاً من الثقّالة أو الستاند.

جزء كبير من فروتها كان مسلوخا عن جلدها كأنّها سُحِلَت!

التسمم أيضاً يمكن أن يتسبب بتساقط الشعر!

هل قام أحدهم بممارسة طقوس ساديّة عليها، ثمّ أجهز عليها سحقاً تحت كتلة الأسمنت؟!

هل صدمتها سيارة متهوّرة (كما هو مرجَّح)، ثم "كمّل عليها" السائق أو عابر سبيل بكتلة الإسمنت لكي يريحها من الألم والعذاب والمعاناة؟!

هل يُؤثَم المرء في مثل هذه الحالة أم يُؤجَر؟!

أسئلة تستثير حنقي وجنوني، ويستثير حنقي وجنوني أكثر أنّني لم أكن حاضراً هناك في دقائقها وثوانيها الأخيرة، وأنا الذي سبق لي وأن بقيتُ ساهراً جوارها طوال الليل في المرّة اليتيمة التي جرّبت بها الحبل والمخاض والولادة.. قبل أن اقترف بحقّها جريمة التعقيم!

# # #

ماتت صفاء.. ولم أكن موجوداً هناك عندما ماتت!

ماتت صفاء، وقبلها مات "علّوشي"، ولم يتبقَ سوى "سِنْد"، الكائنات الثلاثة التي رافقتي في إحدى أحلك مراحل حياتي، وكانت تمنحنى إحساساً بالأُنس والمحبّة، وأنّني بَفْرِق، وأنّ هناك أحد ما ينتظرني لكي أعود إلى البيت آخر النهار، وينشغل إذا أطلتُ الغيبة!

ماتت صفاء لأنّها فقدت توجّسها وحرصها، وأخذت تثق أكثر وأكثر بالآخرين والعالم الخارجيّ!

ماتت صفاء بسبب فشلي، ولعدم امتلاكي بعد كل هذا العمر ولو غرفة حقيرة هي ملكي، أو على الأقل أكتريها بحرّ مالي، وأتمتع بحريّة التصرّف بها أنا وقططي!

ماتت صفاء لأنّني "ما بمون"، ولا أمتلك الحدّ الأدنى من مقوّمات "الزلوميّة" هذه الأيام: مِلكٌ أو دخل ثابت، وخاطر يُراعَى، وواجب يُحسَب حسابه، و"عزوة" لا تميل عليكَ من أجل الآخرين، ولا تسألكَ إذا طلبتَ لماذا طلبتَ، وإذا غضبتَ لماذا غضبتَ!

ماتت صفاء، وحاولتُ المكابرة وعدم البكاء ولكنّني بكيت، ليس سفاهةً لا سمح الله، ولكن المسألة لا تحتاج إلى كثير من العبقريّة لإدراك أنّني من خلال بكائي على صفاء لا أبكي صفاء فقط!

ماتت صفاء، وفي حوشنا حوالي (15) قطة أخرى تزيد وتنقص، ولكن جميع هذه القطط موجودة أساساً ويُعتنى بها بفضل صفاء، وبمعيّة صفاء، وببركة صفاء!

ماتت صفاء، مع أنّ المسكينة قد جاوزت الخمس سنين من عمرها، وهو عمر يُعتدّ به بمقاييس القطط، من دون أن ينالها من اسمها نصيب: أن تصفو لها الحياة!

وداعاً صَفصَف!

كلمات دلالية :

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير