تحول مسيحي أمريكي متصاعد: مراجعة بروتستانتية للدعم المطلق لإسرائيل
اللواء المتقاعد د. موسى العجلوني
جو 24 :
تشهد الأوساط البروتستانتية والإنجيلية في الولايات المتحدة تحولًا فكريًا وأخلاقيًا متزايدًا يعيد النظر في الموقف التقليدي الذي ربط الإيمان المسيحي بدعم دولة الكيان دون قيد أو شرط. فمع تصاعد الجرائم الصهيونية في غزة وما خلفته من دمار وقتل وتجويع واستهداف للمدنيين ودور العبادة والمستشفيات والجامعات والمدارس، بدأ عدد متزايد من المسيحيين الأميركيين، خصوصًا من التيار المحافظ، يتساءلون: هل يمكن للمسيحية أن تبرر الظلم؟ وهل ينسجم دعم الاحتلال مع رسالة المسيح القائمة على الرحمة والعدل والسلام؟
من التبرير الديني إلى الإدانة الأخلاقية
على مدى عقود، رُوّج داخل الكنائس البروتستانتية لتفسيرات توراتية اعتبرت قيام الدولة الصهيونية تحقيقًا لوعد إلهي، وهو ما منح غطاءً دينيًا للسياسات العدوانية ضد الفلسطينيين. لكن مشاهد الحرب الأخيرة على غزة زلزلت هذه القناعات وأعادت طرح سؤال جوهري حول مدى انسجام تلك التفسيرات مع جوهر التعاليم المسيحية. وقد أدرك كثير من المؤمنين أن الصهيونية السياسية ليست امتدادًا للإيمان، بل تحريف متعمّد للنصوص المقدسة لتبرير مشروع استعماري توسعي، وأن ما يسمى "الحق الإلهي" ليس سوى غطاء ديني لأطماع سياسية.
أصوات جديدة مؤثرة داخل اليمين المسيحي
برز في هذا التحول الإعلاميان "تاكر كارلسون" و"كانديس أوينز"، وهما من رموز اليمين الأميركي المحافظ المعروف تقليديًا بدعمه للدولة الصهيونية. فقد وجها نقدًا صريحًا لدولة الإحتلال وللتأويلات الدينية التي تبرره.
كارلسون أحدث صدمة بتصريحه أن الادعاء بأن "شعب الله المختار" هرطقة لاهوتية، مؤكدًا أن الله لا يمكن أن يختار شعبًا يقتل النساء والأطفال، ومتسائلًا: "كيف يمكن لما تفعله إسرائيل أن ينسجم مع تعاليم المسيح؟". أما كانديس أوينز، فقد اعترفت بأنها كانت مؤيدة للصهيونية بسبب جهلها بالتاريخ، لكنها غيّرت موقفها بعدما أدركت أن الفلسطينيين الذين استقبلوا اللاجئين اليهود وفتحوا بيوتهم لهم تحولوا لاحقًا إلى ضحايا للاحتلال والطرد من بيوتهم.
هذا التحول في مواقف شخصيات مؤثرة داخل اليمين الأميركي أعاد النقاش إلى صلب القاعدة البروتستانتية التقليدية، وفتح الباب أمام مراجعة شاملة للعلاقة بين الدين والسياسة والعدالة.
لاهوت جديد وعدالة إنجيلية
يتشكل اليوم داخل الكنائس الأميركية تيار لاهوتي جديد يرفض "القراءة الصهيونية" للكتاب المقدس، ويؤكد أن رسالة الإنجيل تقوم على رفع الظلم ونصرة المظلوم وإقامة السلام العادل دون تمييز. ويرى هذا التيار أن دعم الفلسطينيين ليس موقفًا سياسيًا بل التزام ديني وأخلاقي يعكس جوهر الإيمان بالمسيح، وأن المسيحية لا يمكن أن تكون غطاءً لاحتلال أو استعمار، لأن الله يقف إلى جانب المقهورين لا الأقوياء الظالمين.
وقد وصف الأكاديمي الأميركي "روي كاساغراندا"، أستاذ الدراسات الحكومية وخبير شؤون الشرق الأوسط، التحالف التاريخي بين الصهيونية اليهودية والمسيحية بأنه "صفقة مع الشيطان"، معتبرًا أنه حوّل الإيمان إلى أداة سياسية تبرر الظلم باسم النبوءة وتقدّس القوة على حساب القيم الروحية. ويرى أن هذا التحالف بدأ يتهاوى أخلاقيًا وفكريًا مع انكشاف الجرائم الإسرائيلية في غزة.
سقوط حجة معاداة السامية
من أبرز نتائج هذا التحول الفكري سقوط الذريعة القديمة التي استخدمتها الصهيونية لتكميم الأفواه، وهي تهمة "معاداة السامية". فقد بات واضحًا لدى كثير من المفكرين المسيحيين أن نقد الاحتلال ونقد الفكر الصهيوني لا علاقة له بالعداء لليهود كدين أو كجماعة بشرية، بل هو موقف أخلاقي ضد الظلم، وفكري ضد تحريف النصوص المقدسة.
وتبرز في هذا السياق قضية البروفيسور الأردني كامل العجلوني، الذي سُحبت منه عضوية جمعية أطباء الغدد الصماء الأمريكية بتهمة "معاداة السامية" بعد عرضه لتحليل علمي موثق من التوراة والتلمود يكشف العقلية العنصرية الصهيونية والجرائم التي تُرتكب بإسم الدين، رغم ان هذه الجمعية نفسها منحته جائزة أفضل طبيب في العالم لعام 2008. وقد اعتبر مسيحيون أميركيون مستقلون هذه الواقعة مثالًا على إساءة استخدام هذه التهمة لتشويه الأصوات الحرة التي تنتقد الظلم وتفند الأكاذيب والتحريف الممنهج للنصوص المقدسة.
جيل جديد يعيد تعريف الإيمان
لا يقتصر التحول على النخب الفكرية والإعلامية، بل يمتد إلى جيل كامل من الشباب المسيحي الأميركي والأوروبي الذي نشأ في عصر الإعلام الرقمي وشاهد مباشرة فظائع الحرب على غزة. هذا الجيل لم يعد يتأثر بخطاب الكنائس التقليدي الصهيوني الذي يربط بين "نهاية الزمان" وقيام دولة إسرائيل الكبرى وبناء الهيكل الثالث وعودة السيد المسيح المبني على نصوص محرفة للكتب المقدسة، بل بات يرى أن الإيمان الحقيقي يعني الوقوف إلى جانب الضحية لا الجلاد، وأن محبة الإنسان هي التعبير الأسمى عن محبة الله.
هذا الوعي الجديد يضع الكنائس البروتستانتية أمام مفترق طرق: إما أن تواصل التماهي مع اللوبيات السياسية والمالية الصهيونية المؤيدة لدولة الإحتلال، أو أن تستعيد رسالتها الروحية الأصيلة القائمة على العدالة والمساواة.
خاتمة: الإيمان بين النص والواقع
إن ما يجري اليوم في الفكر البروتستانتي الأميركي لا يقتصر على خلاف سياسي، بل يمس جوهر الإيمان نفسه. فقد أدرك كثير من المسيحيين أن دعم الاحتلال الصهيوني يتناقض مع رسالة المسيح القائمة على الرحمة، وأن التضامن مع الفلسطينيين واجب إنجيلي وأخلاقي قبل أن يكون موقفًا سياسيًا.
ويبدو أن العالم يشهد ولادة وعي مسيحي جديد في أميركا والدول الأوروبية ينزع القداسة عن المشروع الصهيوني ويعيد للمسيحية صورتها الإنسانية الأصيلة. ورغم أن هذا التحول قد يكون بطيئًا، فإنه يمثل بداية تفكك التحالف التاريخي بين الكنيسة والسياسة الذي منح الاحتلال حصانة أخلاقية مزيفة لعقود، وبداية عصر جديد يرى فيه المؤمنون أن الإيمان الحقيقي لا يقف إلا مع الحق والعدالة والإنسان الفلسطيني.








