معجزة الأسعار: رسائل معلوماتية تصنع القرارت والسياسات
تُعدّ الأسعار إحدى أكثر الظواهر الاقتصادية بساطة في ظاهرها، لكنها في جوهرها واحدة من أعقد النظم التي ابتكرها العقل البشري لتنظيم الحياة الاقتصادية. فالرقم الذي نراه معروضًا على سلعة في متجر، أو سعر فائدة في نشرة مصرفية، أو قيمة صرف عملة على شاشة التداول، ليس مجرد معلومة حسابية جامدة؛ إنه رسالة معلوماتية مضغوطة تحمل في داخلها خلاصة معرفة واسعة ومبعثرة بين ملايين الأفراد والمنتجين والمستهلكين في جميع أنحاء الاقتصاد.
هذا الفهم العميق لدور الأسعار يعود في الأساس إلى ما قدّمه المفكر الاقتصادي النمساوي فريدريش هايك في مقالته الشهيرة عام 1945 "استخدام المعرفة في المجتمع”. فقد صاغ هايك رؤية ثورية ترى أنّ المعرفة الاقتصادية ليست مركزية ولا يمكن جمعها في عقل واحد، بل هي موزعة بين الأفراد كلٌ حسب خبرته وظروفه المحلية. ومن ثمّ، لا يمكن لأي سلطة أو جهاز تخطيط مركزي أن يتخذ قرارات مثلى بمجرد امتلاكه لبيانات عامة، لأن الجزء الأهم من المعلومات—الظروف المتغيرة، التكاليف الحقيقية، البدائل المتاحة، توقعات الناس—يظل محجوزًا في عقول الأفراد.
من هنا تنبع معجزة النظام السعري. فالسوق لا تحتاج إلى تنسيق مباشر ولا أوامر عليا كي تعمل، بل يكفي أن تتغير الأسعار لتعكس حالة العرض والطلب، فيستجيب المنتج والمستهلك بناءً على تلك الإشارة. ارتفاع سعر سلعة معينة هو في ذاته رسالة مفادها: "هناك ندرة، هناك طلب، هناك فرصة إنتاج”. وانخفاض السعر رسالة معاكسة تقول: "هناك وفرة، هناك تراجع في الطلب، الأفضل تحويل الموارد إلى مكان آخر”. ومن دون أن يتواصل هؤلاء الفاعلون الاقتصاديون أو يعرف بعضهم البعض، تتناغم قراراتهم استجابة لهذه الإشارات، ويُعاد توزيع الموارد على نحو أكثر كفاءة.
هذه الظاهرة —التي تبدو في غاية البساطة— هي في الحقيقة المعادلة التي بُنيت عليها الاقتصادات الحديثة المعقدة. فالأسواق العالمية التي تضم ملايين السلع وعشرات الملايين من العاملين ورأس المال والمستهلكين لا يمكن أن تُدار بقرارات مركزية. وحده النظام السعري قادر على تحويل المعرفة المتناثرة إلى منظومة قرارات متسقة، بما يشبه أداء شبكة عصبية كونية تتفاعل في كل لحظة.
ولا يقتصر هذا الدور على السلع؛ بل يمتد ليشمل أسعار الفائدة، وسعر الصرف، وأسعار الأصول المالية. كل رقم منها هو رسالة مرمّزة حول مستوى المخاطر، والسيولة، والتوقعات، وتوازنات الاقتصاد الكلي. وهنا بالضبط يبرز دور البنوك المركزية والمؤسسات الرسمية التي تُعدّ مؤشرات الأسعار—وخاصة التضخم—البوصلة التي تضبط قراراتها.
فالتضخم الشهري ليس مجرد مؤشر إحصائي تنشره الجهات الرسمية لغايات إعلامية؛ بل هو مكوّن أساسي في النظام المعلوماتي للاقتصاد. إنه يخبر البنك المركزي عن درجة سخونة الاقتصاد، وعن اختلالات محتملة في جانب الطلب أو جانب العرض، وعن مدى تآكل القوة الشرائية للعملة، وعن الاستقرار السعري الذي يُعدّ ركيزة للنمو والادخار والاستثمار. وكل تغيير في أرقام التضخم—ولو كان طفيفًا—يغيّر اتجاهات السياسة النقدية، ويعيد تشكيل توقعات الأسواق، ويرسل إشارات مباشرة إلى القطاع المصرفي، والمستثمرين، والشركات والأسر.
فالبنك المركزي عندما يرفع أو يخفض أسعار الفائدة لا يفعل ذلك اعتباطًا، بل استجابة للرسالة التي يقرأها في بيانات الأسعار:
- ارتفاع التضخم = رسالة بوجود ضغوط سعرية تستوجب التهدئة عبر رفع الفائدة.
- انخفاض التضخم = رسالة بوجود تراجع في الطلب تستوجب التحفيز عبر خفض الفائدة.
وهكذا تتداخل معجزة الأسعار—كما وصفها هايك—مع آليات رسم السياسات الحديثة. فكما أنّ الأسعار في السوق توجه المنتج والمستهلك، فإن أرقام التضخم توجه صانع السياسة النقدية، وتعيد تشكيل توقعات الأسواق وسلوكها.
إن إدراك هذا الترابط العميق بين الأسعار كنظام معلوماتي، وبين التضخم كمؤشر مركزي في هذا النظام، يساعد القارئ المتخصص والعادي على فهم السبب وراء أهمية نشر البيانات الدورية، ولماذا تكون الأسواق حساسة تجاه أي رقم جديد، ولماذا أصبحت البنوك المركزية تعتمد على "استهداف التضخم” كإطار لسياساتها.
فالأسعار ليست مجرد قيم رقمية، بل لغة الاقتصاد؛ لغة دقيقة، مختصرة، وفعّالة، تحمل في داخلها نبض السوق وحركة الإنتاج والطلب وسياسات الدولة. وكلما فهمنا هذه اللغة بعمق، أدركنا كيف تعمل اقتصادات الدول، وكيف تُصاغ السياسات، وكيف يُدار المستقبل الاقتصادي للأفراد والمجتمعات.








