وفيات التدفئة الصامتة: مأساة متكرّرة تهزّ البيوت الأردنية وتتطلّب معالجة مستدامة #عاجل
كتب - اللواء المتقاعد د. موسى العجلوني
أول أكسيد الكربون غاز قاتل بصمت؛ فهو عديم اللون والرائحة والطعم، يتسرّب إلى الرئتين دون أن يشعر به الإنسان، ويرتبط بالهيموغلوبين في الدم بقوة تفوق الأكسجين مرات عديدة، فيمنع وصوله إلى الدماغ والقلب. تبدأ الأعراض عادة بصداع ودوخة وغثيان وتعب شديد، ثم نعاس وتشوش وفقدان للوعي، وقد يتوقف التنفس أو القلب، وغالباً ما ينام الضحية ولا يستيقظ، خاصة عند تشغيل المدفأة أثناء النوم وفي غرف سيئة التهوية.
ومع كل حادثة، يتكرّر المشهد ذاته: تتصاعد الأصوات، ويبدأ البحث عن كبش فداء؛ مصنع المدفأة، أو التاجر، أو مسؤول تنفيذي كبير، ثم يُغلق الملف بعد أيام، إلى أن يأتي شتاء جديد وضحايا جدد. هذه المقاربة، رغم سهولتها الإعلامية، أثبتت فشلها، لأنها تعالج العَرَض لا الجذر، وتتجاهل أن المشكلة منظومة متكاملة تتداخل فيها الثقافة المجتمعية، وأنماط الاستخدام، والظروف الاقتصادية، ونوعية السكن.
فالكثير من العائلات الأردنية، في ظل ازدياد معدلات الفقر وارتفاع تكاليف المعيشة والطاقة، لا تملك رفاهية اختيار وسائل تدفئة أكثر أماناً وأعلى كلفة، كالتدفئة الكهربائية أو الأنظمة المركزية. وبدافع الحاجة، تلجأ هذه الأسر إلى خيارات أقل كلفة وأكثر خطورة، مثل مدافئ الغاز البدائية أو الكاز أو الحطب، وغالباً داخل غرف مغلقة حفاظاً على الدفء. هنا لا يكون الخطر نتاج جهل فقط، بل نتيجة عجز اقتصادي حقيقي يضع السلامة في مواجهة الحاجة.
وتزداد المأساة تعقيداً في ظل ظروف السكن غير الصحي في بعض المناطق الفقيرة والأطراف؛ مساكن ضيقة،كثافة سكانية عالية، تهوية ضعيفة أو معدومة، نوافذ غير مناسبة، غياب المداخن ووسائل السلامة الأساسية. في مثل هذه البيئات، يتحوّل أول أكسيد الكربون إلى قاتل سريع، قادر على القضاء على أسرة كاملة خلال ساعات، دون أي إنذار محسوس.
لا شك أن إجراءات الوقاية مهمة ومعروفة وواضحة: تهوية المنازل بشكل دائم ولو بفتح نافذة جزئياً، عدم النوم والمدفأة مشتعلة، فحص وسائل التدفئة بشكل دوري، الامتناع التام عن استخدام الفحم أو الكاز في الأماكن المغلقة، وإطفاء المدفأة قبل النوم بوقت كافٍ، إضافة إلى تشجيع تركيب كواشف أول أكسيد الكربون حيثما أمكن. كما أن أي شعور بصداع أو دوخة مفاجئة أثناء تشغيل المدفأة يجب أن يُقابل بالخروج الفوري إلى الهواء الطلق وطلب الإسعاف دون تردد.
لكن الاكتفاء بهذه الإرشادات، دون ربطها بواقع الناس الاجتماعي والاقتصادي، يبقي المشكلة قائمة. فالحماية الحقيقية للأرواح تتطلب مقاربة وطنية شاملة لا تُختزل في محاسبة طرف واحد ثم إغلاق الملف، ولا تُدار بمنطق الحملات الموسمية بعد وقوع الكارثة. مقاربة تدمج التوعية المستمرة مع سياسات الحماية الاجتماعية، وتدعم الأسر الفقيرة ببدائل تدفئة آمنة وميسورة الكلفة، وتحسّن شروط السكن والرقابة على معايير السلامة داخل المنازل.
ختاما، إن هذه الوفيات ليست قدراً محتوماً، بل نتيجة إهمال تراكمي واختلالات يمكن معالجتها إذا ما انتقلنا من منطق البحث عن كبش فداء إلى منطق المسؤولية المشتركة والعمل المستدام. عندها فقط يمكن أن لا يكون الشتاء في الأردن موسماً للحزن، بل اختباراً ناجحاً لقدرتنا على حماية الإنسان وكرامته داخل بيته.








