زلزال اردوغان
من مأمنهِ يُؤتى الحذِر ، ربما هذا أقرب ما ينطبق على أردوغان الطّيب رجب ، في مشكلته الأخيرة ، والتي سبّبها له شريكه وحليفه ( القديم ) فتح الله كولن وامتداداته .
لم تكن هذه أوّل هزّة يتعرّض لها أردوغان وحكومته ، ولن تكون آخرها . فالنّاجحون دوماً يتعرّضون لمكائد ومؤامرات من خصومهم ومن حلفائهم أحيانا . إنّها ضريبة النّجاح التي يجب أن يتوقّعها النّاجحون كي يكونوا على حذرِ دائم وعيونِ مفتوحة على ما ومن حولهم . يستشعرون الخطر قبل وقوعه ، فيمنعوه ، أو يعملوا على تقليل آثاره إن وقع .
لم تكن هذه المرّة الأولى التي يتعرّض فيها أردوغان لمشاكل وحكومته وحزبه لهزّات . فقد سبقها مشاكل مع العسكر وتحجيم دورهم في الحياة السياسية . وحلمهم بالعودة ومحاولة الإطاحة بحكومته من خلال انقلاب عسكري تمّ اكتشافه وفكفكة خيوطه وتحويل المتورطين إلى القضاء بل تحويل قادة الانقلابات العسكرية السابقة أيضا إلى القضاء . فجرائم الاعتداء على الحريات العامّة واختطاف الديمقراطية وحقّ الشعب في اختيار من يُمثّله ويحكمه ، لا تسقط بالتّقادم .
ثمّ كانت مشكلة سفينة مرمره وشهداؤها ، والذي بقي جرحاً مفتوحا لم يندمل ، رغم الاعتذار والتعويضات ومحاولة تجاوز آثارها ، إلا أن قطاعا واسعا من الشعب التركي ظل يشعر بغصّة وأنّ كرامته الوطنيّة قد خُدِشت .
ثم كانت الثّورة السورية ، البلد الجار ، والذي تربطه به علاقات أكثر من ممتازة سياسية واقتصادية وديمغرافية . بل كانت تربط القيادتين علاقات شخصية وعائلية حميمة . لم يستطع أردوغان إلا أن يُعلن عن موقفه الإنساني وهو يرى شعبا جارا يُقتّل من قبل قيادته لأنه خرج مطالبا بالحرية والكرامة . لم يستطع أردوغان إلا أن يكون منسجما مع نفسه ومع إنسانيته ومع أفكاره . فشكّلت هذه المشكلة ضغطا سياسيا واقتصاديا وديمغرافيا على تركيا وحكومتها .
وربما بسبب هذا الموقف حاولت قوى سياسية داخلية تركية معارضة وربما بتأييد ودعم ومباركة خارجية من محاولة إثارة مشاكل بتجميع مظاهرات واعتصامات حاشدة في ميدان تقسيم مستغلّة مبرراً سخيفا , ألا أنه بحكمته وحنكته وشعبيّته تمكّن من احتواء الموقف الذي كان يُراد له أن يكون مقدمة لأحداث أكبر كالتي حدثت في مصر والتي كانت قريبة العهد .
إلا أن هذه المشكلة الأخيرة ربما تكون الأخطر والأصعب على أردوغان وحكومته لسببيْن . الأول أنّها كانت ضمن البيت الداخلي والساحة الخلفية لأردوغان وحزبه . ففتح الله كولن كان حليفا وشريكا غير معلن في الحكم . والثاني أنّها كانت بموضوع يعتبر السبب الرئيس لاختيار الناس له وزيادة شعبيته وانتخابه لأكثر من مرّة مما أدى للتّقدّم الاقتصادي الذي شهدته تركيا بعهده . وهو الفساد ومكافحته ، فقد أعلن أكثر من مره أنّ النّجاح الاقتصادي الذي تمتّعت به تركيا ومكّنها من نقلها نقلة نوعية كان بسبب منعه الفساد ومحاربته . فأن يُتّهم وزراء ومقربين منه بالفساد الذي أعلن الحرب عليه فتلك مصيبةٌ المصائب .
يبدو أنّ الاتفاق الضّمني بين أردوغان وبين فتح الله كولن وأنصاره بإطلاق أيديهم في التعليم والجامعات والأعلام وتعيين مقربين منه في الداخلية والقضاء جعل فتح الله يصبح كأنه دولة داخل الدولة ويُطالب بامتيازات أُخرى . وعندما شعر أردوغان بخطورة الوضع حاول تقليم أجنحة فتح الله بادئاً بالتعليم ، إلا أنّ تغلغل فتح الله وأنصاره في القضاء والشرطة مكّنه من توجيه اتّهامات بالفساد لوزراء وأبنائهم ورجال أعمال مقربين من حزب أردوغان واعتقالهم . كما واستغل فتح الله نفوذه بوسائل الأعلام فأدار حملة تشويه ونشر لمعلومات لم يتم التحقّق منها .
إنّ الاتهام بالفساد لشخص وحكومة بنت مجدها على نظافتها ومحاربته لهي ضربة موجعة يُراد لها أن تكون القاضية ، دون توفّر البديل المناسب . وبذا تكون خطوة فتح الله كولن وصداقته كصداقة الدّب ، الذي آذى صاحبه ولم ينفع نفسه .
حتى الآن يُحاول أردوغان الخروج من الأزمة بأقل الخسائر فأقال وزراء وأقال مسؤولين وقيادات في الشرطة وأعلن أنه سيستمر في محاربة الفساد مهما كان مصدره وأنه سيحاسب من يثبت فساده . وطالب بعدم تسريب ونشر محاضر التحقيق قبل حكم القضاء .
هل يتمكن أردوغان من النّجاة هذه المرّة أيضاً سيّما وأنّ الجرح في الكفّ كما يقولون . أرجو ذلك فحزب وحكومة ودولة يقودها رجال أذكياء ومخلصون ستخرج أيضاً من هذه المحنة أكثر قوّة ، أتمنى ذلك .