الخيار الأردني مطروح اسرائيليا والنخب الحاكمة في حالة نكران مرضية
د. حسن البراري
جو 24 : هناك قصة يرويها الدكتور مروان المعشر عندما كان سفيرا بإسرائيل، فأثناء لقاء جمعه مع نتنياهو قال له الأخير أن هناك مصلحة اردنية اسرائيلية مشتركة لمنع ظهور دولة فلسطينية مستقلة، المعشر بدوره قال له أن هناك في الاردن رأي مختلف يفيد بان اقامة دولة فلسطينية مستقلة يخدم مصالح الاردن، وان الأردن يدعم هذا الحل، عندها قال نتنياهو بأنه يفهم سياسة الاردن اكثر من سفير الاردن بتل ابيب. انتهى النقاش عند هذه النقطة. هذه القصة سمعتها من الدكتور مروان المعشر اكثر من مرة وضمنها في كتابه الأول.
ولم يكن حينها نتنياهو مؤمنا بفكرة حل الدولتين وكان يعتقد انه بالامكان التعاون مع الاردن لمنع ترجمة هذا الخيار إلى واقع عملي. فبالنسبة لنتنياهو كان لا بد من شريك عربي لمنع ظهور دولة فلسطينية وكان يرى بالاردن شريكا مؤهلا للعب هذا الدور، ومنذ ذلك الوقت استقر في ذهن نتنياهو فكرة الشريك الأردني بالرغم من موافقته اللفظية اللاحقة على حل الدولتين.
في الاول من ايلول عام ١٩٩٧ نشر البرفسور روبرت بوك ملير دراسة هامة بعنوان "Likud's Jordan policy" تحدثت عن تطور الأردن في الفكر الاستراتيجي لحزب الليكود، وكانت مناسبة الدراسة نجاح بنيامين نتنياهو في الانتخابات وتشكيله حكومة من ثمان احزاب من بينها سبعة منها كانت ترفض اتفاقية أوسلو. يقول روبرت بوك ميلر أن الاردن تطور في الفكر الليكودي ومر بثلاث مراحل، وسأضيف مرحلة رابعة بعد أن استعرض تحليل روبرت بوك ميلر. في البداية كان جابوتنسكي (الأب الروحي لحزب حيروت الذي تطور لاحقا واصبح الليكود) يؤمن بأن شرق الأردن هي جزء من وعد بلفور وبالتالي هي جزء لا يتجزأ من ارض الميعاد باعتبارها جزءا من "مدبار يهودا" أي صحراء يهودا. وحتى كلمات نشيد حزب الليكود هي نفسها كلمات حركة بيتار التي أسسها جابوتنسكي وهي "لنهر الأردن ضفتان، هذه لنا وتلك لنا".
وبقي الحزب يحجب الثقة عن حكومات حزب مباي (العمل) احتجاجا منه على ما كان يراه من اعتراف بن غوريون بالاردن. غير أن مواقف الحزب لم تساعده على التقدم في الانتخابات التي كان يربحها حزب مباي بسهولة، وقد توصل مناحيم بيغن (زعيم حيروت) إلى نتيجة تفيد ان فرصة حزبه في الانتخابات تتطلب التحالف مع احزاب أخرى للاطاحة بحزب مباي الذي تخلى عن بن غوريون في عام ١٩٦٣، وكانت مناسبة جيدة لبيغن ليعيد حساباته الحزبية. هنا كان لا بد ان يأتلف مع حزب الاحرار الذي اشترط لقاء الائتلاف مع حزب حيروت التخلي عن المطالبة بضم الاردن لإسرائيل، وهو ما حدث بالفعل، وشكلت كتلة غاهال من حيروت والاحرار التي تطورت بعد عام ١٩٧٣ الى حزب الليكود الذي بدأ ينافس بقوة على الانتخابات وتمكن من الاطاحة حزب العمل عام ١٩٧٧. وفي هذه المرحلة اصبح الأردن فلسطين بدلا عن كونه جزءا من ارض الميعاد. فالحل بالنسبة لاعضاء بارزين من حزب الليكود هو تغيير اسم الاردن من المملكة الاردنية الهاشمية الى المملكة الفلسطينية الهاشمية وقد كتب شامير مقالين هامين في مجلة الفورين افيرز في عام ١٩٨٢ وفي عام ١٩٨٨ وفيهما قدم مرافعة تفيد بأن الاردن هو فلسطين.
وفي نفس السياق الزمني تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية من الانتصار في معركة التمثيل مع الملك حسين ما دفع الملك حسين إلى فك الارتباط عام ١٩٨٨ بعد نشر القيادة الموحدة للانتفاضة البيان رقم عشرة الذي اربك الحكم بالاردن كما يقول عدنان ابو عودة. هنا نشط في حزب العمل ما يسمى ب عصابة الثمان (وهي مجموعة بقيادة يوسي بيلين وحاييم رامون وابراهم بورغ) وكانت هذه المجموعة تريد التخلص من الخيار الاردني وتبني الخيار الفلسطيني. وقد تمكنت هذه المجموعة من ذلك في عام ١٩٩٢ وهو ما انعكس في البرنامج السياسي لحزب العمل الذي على أساسه انتصر في انتخابات عام ١٩٩٢. وقد أدى دخول الاميركان على خط عملية السلام بقوة الى التأثير على انتخابات عام ١٩٩٢ والى الحاق هزيمة باسحاق شامير. عندها استوعب الليكود ضرورة احداث تغيير على برنامج الحزب حتى يتمكن من العودة الى السلطة، هنا بدا الحديث عن المرحلة الثالثة وهي مرحلة متردده اعترف بها الليكود بان الاردن هو الاردن وفلسطين هي فلسطين، وعندما وافق نتنياهو على برتكول الخليل في السابع عشر من شهر كانون ثاني ١٩٩٧ كان ذلك بمثابة ضربة كبيرة للفكرة الايدولوجية المتمثلة ب "اسرائيل الكبرى."
لكن مرحلة الاردن هو الاردن وفلسطين هي فلسطين لم تصمد طويلا لاسباب داخلية وامنية بإسرائيل، وقد رافق ذلك تطور آخر بالولايات المتحدة، ففي عام ١٩٩٦ وضعت مجموعة من المحافظين الجدد وعلى رأسهم ريتشادر بيرل ورقة سياسات بعنوان: A Clean Break وفيها طالبوا الغاء اوسلو واحتلال العراق. وهي الورقة التي قدمت الى نتنياهو عام ١٩٩٦ ثم إلى بيل كلينتون بشهر شباط عام ١٩٩٨ الا أن الأخير رفضها! وعلى نحو لافت تبلورت في هذه الفترة مجموعة من العوامل احدثت تأثيرا في فكر الليكود، وهنا نشير إلى فوز جورج بوش في الانتخابات الرئاسية الأميركية واحداث الحادي عشر من سبتمبر ووصول المحافظين الجدد إلى مفاصل اتخاذ القرار في البنتاغون وفي البيت الابيض ونجاح شارون في تقديم حربة ضد الفلسطينين ورفضه للسلام في سياق حرب اميركا ضد الارهاب العالمي وبن لادن. وبالفعل دفعت هذه العوامل بحزب الليكود الى التخلي عن مقاربة فلسطين هي فلسطين واتجه الحزب تدريجيا إلى تبني فكرة الخيار الأردني منقوصا، واللافت أن هذا التغير بدأ بالتبلور في صفوف الحزب في وقت كان موقف الحزب اللفظي هو دعم خيار حل الدولتين. وهذا هو السبب الرئيس الذي دفع إسرائيل إلى تجاهل ياسر عرفات والاصرار على الاحادية واللعب على التناقضات الفلسطينية الداخلية التي وقع ضحية لها كل من فتح وحماس وما زالا الى يومنا هذا.
فالهدف الأول لحزب الليكود هو التوسع على حساب الاراضي الفلسطينية مع الحفاظ على نقاء ويهودية الدولة، وبهذا المعنى يسعى الليكود إلى الانفصال عن الفلسطينيين خوفا من خطر ثنائية القومية، لكن الحزب لا يثق بالفلسطينيين ويرى أن انضمامهم للاردن هو في صالح المشروع الصهيوني. الراهن أنه وعلى العكس من الجانب العربي، فإن الاستراتيجيين الاسرائيليين كانو قد نشطوا في هذه المرحلة في طرح السيناريوهات التي تحافظ على مصالحهم وبخاصة الاستيطان والتوسع. في هذا السياق يمكن فهم دراسة غيورا ايلاند الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي في اسرائيل ابان فترة شارون وكان هو مهندس الانسحاب الاحادي الجانب. وهذا الرجل يتمتع بقدرة مذهله في التحليل الاستراتيجي وبالتالي عهد اليه شارون رسم خريطة الحل التي وضعها في دراسة معروفة نشرت في مركز بيغن سادات بجامعة بار ايلان وهي ذات الجامعة اليمينية المتطرفة التي كان فيها قاتل رابين يغال الون طالبا، وهذه هي المرحلة الرابعة التي أردت طرحها لأضيف إلى دراسة بوك ميلر الهامة. فالليكود بهذا المعنى أخرج من صفوفه كل الشخصيات التي كان يراودها فكرة حل الدولتين ومن بينهم اولمرت وتسيبي لفني لصالح شخصيات ترى ان الشريك في الحل هو الاردن.
وفي هذه الفترة نشط الأردن بالحديث عن حل الدولتين وتسوية قضية اللاجئين وتكاد لا تخلو زيارة لراس الدولة للدول الغربية الا ويتحدث عن حل الدولتين. والحقيقة هي أن الملك عبدالله الثاني يريد بالفعل المساهمة في اقامة دولة فلسطينية مستقلة وهو واضح في طرحه ولا يحاول أبدا تقويض مطالب الفلسطينيين في اقامة الدولة، فهو أي الملك عبدالله ليس له طموح شخصي في حكم الفلسطينيين غرب النهر.
وتزامن الطرح الرسمي في الاردن المتعلق بحل الدولتين مع وصول عدد من النيوليبراليين الى مفاصل صنع القرار بالاردن وهم مجموعة من السياسيين الذين سيطروا على طريقة تفكير الملك واوغلوا في سياسات افقرت المجتمع واضعفت الدولة، والأنكى أن هذه المجموعة كانت تؤمن بأن حل مشاكل الاردن الاقتصادية يتطلب استجابة الاردن لحل سياسي للصراع الفلسطيني الاسرائيليي يفضي إلى توطين اللاجئين لقاء مليارات من الدولارات تحصل عليهم الدولة الاردنية. وبلغ تهافت الطرح الرسمي إلى تبني خطاب التخويف من ان فرص حل الدولتين تتراجع، وهو خطاب واجه مشكلتين: أولا، لم يأخذ الغرب ولا إسرائيل التحذيرات الاردنية على محمل الجد وأصبحت التحذيرات الاردنية موضوعا للسخرية لدى الكثير من الخبراء الغربيين، وثانيا، لم ينجح الاردن في بلورة خطة بديلة للدفاع عن مصالحه في حال فشل حل الدولتين. بمعنى أن المنطق كان يجب ان يفضي الى ان يرافق التحذيرات الاردنية بزوال فرص حل الدولتين العمل على ايجاد خيار آخر او العمل على تنويع خيارات السياسة الخارجية بدلا من ابقائها في سياق التبعية للسياسة الأميركية!
والحال أن ديناميكية القوة في داخل اسرائيل كانت دائما تدفع باتجاه معادلة ناجزة وحيدة وهي انه كلما مر الوقت دون حل كلما اوغلت اسرائيل في قضم الارض الفلسطينية وبناء المستوطنات. وهذا هو تكتيك صهيوني كلاسيكي يستند إلى خلق وقائع على الارض Fait Accompli والطلب من العرب التعامل بواقعية مع هذه التغيرات وهو الامر الذي اكد عليه الرئيس بوش في رسالة كان قد بعث بها الى شارون عام ٢٠٠٤ وفيها تعترف الولايات المتحدة بان اي حل نهائي يجب ان يأخذ بعين الاعتبار هذه التغيرات.
بالنهاية استمرت اسرائيل وستستمر بنفس التكتيك الكلاسيكي الذي يفضي الى خلق وقائع على الاردن الى ان وصلنا الى نقطة يصعب معها الحديث بجدية عن دولة فلسطينية مستقلة لأن ما تبقى من ارض لا يسمح باقامة دولة مستقلة قابلة للحياة إلا اذا كانت مرتبطة مع الاردن. وهنا التغير الاخير في موقف الليكود وهو تبني الخيار الاردني بالممارسة على اعتبار أن الاردن وما تبقى من اراض فلسطينية يشكلان كيان سياسي واحد بحيث أن الاردنيين اقدر على التعامل مع الفلسطينيين وتقديم الخدمة الامنية لاسرائيل شريطة أن تكون المنقطة غرب النهر منزوعة السلاح. وهناك قناعة لدى اهم رموز حزب الليكود بأن الاردن ليس صادقا بالمناداة في حل الدولتين، وبالتالي يعتقد نتنياهو ومعه تيار مسيحي متصهين في اميركا ان الاردن لا يحتاج الا الى ضغط بسيط حتى يقبل بالخيار الاردني ناقصا، بمعنى أن المطروح ليس خيارا اردنيا كما تبناه حزب العمل ورفضه الملك حسين بل اقل من ذلك وهو أمر ان تحقق سينهي الاردن الذي نعرفه اليوم لصالح دولة ثنائية القومية مشكلة من اردنيين وفلسطينيين.
أردنيا، ثمة قراءة رسمية ساذجه يطرحها ناصر جودة تفيد بأن الأردن قادر على رفض أي حل للصراع الفلسطيني الاسرائيلي لا يخدم مصالحه. تصريحات جودة لا تعكس الواقع وهي إما أنها تعكس جهل الوزير والرسميين بالتحولات في المشهد الاقليمي أو انها تنطوي على تضليل متعمد للشارع الاردني حتى تبرر عجز السياسية الخارجية الاردنية وعدم قدرتها على خلق خيارات تخدم مصالح الاردن الوطنية بمعزل عن الآخرين. وللدقة هناك الكثير من الاراء التي تفيد بأن الأردن يريد أي حل يؤمن له مبالغ مالية تساعده في ازماته الاقتصادية، وهو أمر يرى صانع القرار انه ممكن، وربما الاسم الحركي لكل ذلك القول أن للاردن مصالح في قضايا الحل النهائي كما ذهب الى ذلك معروف البخيت في محاضرته الأخيرة.
ما ينبغي ان يستطبنه صناع القرار بالاردن هو اننا نعيش في مرحلة مختلفة وفي سياق مغاير عما كان قبل عقد من الزمان، فالمنطقة تشهد تحولات كبيرة، فالعراق في عين العاصفة، وسوريا تمر بمرحلة قد تفضي الى تقسيم أو على الاقل الى غياب الاستقرار لسنوات، والفلسطينيون في اضعف حالاتهم جراء الانقسام وفشل نخب اوسلو في الحكم، يضاف إلى ذلك الازمة الاقتصادية التي ضربت الاقتصاد الاردني والناتجة عن فشل السياسات الاقتصادية التي قللت من هامش الاردن في المناورة. ولو ضغطت واشنطن على الاردن المنكشف استراتيجيا والمعتمد بامنه على ما يسمى بالعلاقة الاستراتيجية مع اميركا فإنه لن يكون بوسع الحكومة الاعتراض وستتسلح الحكومة بحيل الواقعية السياسية وأن الضرروات تبيح المحظورات ولا يحتاج الامر سوى رئيس حكومة يجيد المراوغة حتى يمر المشروع. بمعنى لن يصمد النظام أمام رغبة اسرائيلية اميركية للقيام بدورة الوظيفي التاريخي في العلاقة مع اسرائيل؟!
بشكل عام يرى الاسرائيليون بأن للاردن وظيفتان شكلت مبرر الدعم الغربي له: الوظيفة الأولى هي ان يكون منطقة عازلة (Buffer Zone) للحفاظ على أمن اسرائيل وبالفعل قام الاردن بهذا الدور نظرا لمركزيته الجيوسياسية في اقليم ملتهب، والوظيفة الثانية هي استقبال الفائض السكاني للصراع وهو ايضا ما قام به الاردن بامتياز. السؤال ماذا لو اصر الغرب واسرائيل على ان يتوسع الاردن غرب النهر واحياء دوره في الضفة بصيغ كاذبه مثل الكونفدرالية؟! كيف سيؤثر ذلك على تركيبته الديمغرافية، هل سنشهد كيانا ثنائي القومية، ومن سيحكم به، وكيف سيكون هذا الكيان الجديد مستقرا دون احداث تغيير كبير على بنية الحكم؟
باختصار فإن الليكود بقيادة نتنياهو يستهدف الاردن والمفارقة أن هناك من بيننا من يعتقد ان نتنياهو رجل سلام!!! ربما الرسالة التي يجب على الاردن ارسالها ردا على ما تم تسريبه من ما تضمنه مشروع كيري هو اعلان الاردن رضفه لأن يلعب اي دور في الضفة الغربية وان يعلن البرلمان تشريعا لدسترة قانون فك الارتباط بدلا من بيانات الفزعة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وهي بيانات بالمناسبة لا ينتبه اليها احد في الغرب لأن الغرب يرى علاقته بالاردن تمر عبر شخص واحد فقط.
ولم يكن حينها نتنياهو مؤمنا بفكرة حل الدولتين وكان يعتقد انه بالامكان التعاون مع الاردن لمنع ترجمة هذا الخيار إلى واقع عملي. فبالنسبة لنتنياهو كان لا بد من شريك عربي لمنع ظهور دولة فلسطينية وكان يرى بالاردن شريكا مؤهلا للعب هذا الدور، ومنذ ذلك الوقت استقر في ذهن نتنياهو فكرة الشريك الأردني بالرغم من موافقته اللفظية اللاحقة على حل الدولتين.
في الاول من ايلول عام ١٩٩٧ نشر البرفسور روبرت بوك ملير دراسة هامة بعنوان "Likud's Jordan policy" تحدثت عن تطور الأردن في الفكر الاستراتيجي لحزب الليكود، وكانت مناسبة الدراسة نجاح بنيامين نتنياهو في الانتخابات وتشكيله حكومة من ثمان احزاب من بينها سبعة منها كانت ترفض اتفاقية أوسلو. يقول روبرت بوك ميلر أن الاردن تطور في الفكر الليكودي ومر بثلاث مراحل، وسأضيف مرحلة رابعة بعد أن استعرض تحليل روبرت بوك ميلر. في البداية كان جابوتنسكي (الأب الروحي لحزب حيروت الذي تطور لاحقا واصبح الليكود) يؤمن بأن شرق الأردن هي جزء من وعد بلفور وبالتالي هي جزء لا يتجزأ من ارض الميعاد باعتبارها جزءا من "مدبار يهودا" أي صحراء يهودا. وحتى كلمات نشيد حزب الليكود هي نفسها كلمات حركة بيتار التي أسسها جابوتنسكي وهي "لنهر الأردن ضفتان، هذه لنا وتلك لنا".
وبقي الحزب يحجب الثقة عن حكومات حزب مباي (العمل) احتجاجا منه على ما كان يراه من اعتراف بن غوريون بالاردن. غير أن مواقف الحزب لم تساعده على التقدم في الانتخابات التي كان يربحها حزب مباي بسهولة، وقد توصل مناحيم بيغن (زعيم حيروت) إلى نتيجة تفيد ان فرصة حزبه في الانتخابات تتطلب التحالف مع احزاب أخرى للاطاحة بحزب مباي الذي تخلى عن بن غوريون في عام ١٩٦٣، وكانت مناسبة جيدة لبيغن ليعيد حساباته الحزبية. هنا كان لا بد ان يأتلف مع حزب الاحرار الذي اشترط لقاء الائتلاف مع حزب حيروت التخلي عن المطالبة بضم الاردن لإسرائيل، وهو ما حدث بالفعل، وشكلت كتلة غاهال من حيروت والاحرار التي تطورت بعد عام ١٩٧٣ الى حزب الليكود الذي بدأ ينافس بقوة على الانتخابات وتمكن من الاطاحة حزب العمل عام ١٩٧٧. وفي هذه المرحلة اصبح الأردن فلسطين بدلا عن كونه جزءا من ارض الميعاد. فالحل بالنسبة لاعضاء بارزين من حزب الليكود هو تغيير اسم الاردن من المملكة الاردنية الهاشمية الى المملكة الفلسطينية الهاشمية وقد كتب شامير مقالين هامين في مجلة الفورين افيرز في عام ١٩٨٢ وفي عام ١٩٨٨ وفيهما قدم مرافعة تفيد بأن الاردن هو فلسطين.
وفي نفس السياق الزمني تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية من الانتصار في معركة التمثيل مع الملك حسين ما دفع الملك حسين إلى فك الارتباط عام ١٩٨٨ بعد نشر القيادة الموحدة للانتفاضة البيان رقم عشرة الذي اربك الحكم بالاردن كما يقول عدنان ابو عودة. هنا نشط في حزب العمل ما يسمى ب عصابة الثمان (وهي مجموعة بقيادة يوسي بيلين وحاييم رامون وابراهم بورغ) وكانت هذه المجموعة تريد التخلص من الخيار الاردني وتبني الخيار الفلسطيني. وقد تمكنت هذه المجموعة من ذلك في عام ١٩٩٢ وهو ما انعكس في البرنامج السياسي لحزب العمل الذي على أساسه انتصر في انتخابات عام ١٩٩٢. وقد أدى دخول الاميركان على خط عملية السلام بقوة الى التأثير على انتخابات عام ١٩٩٢ والى الحاق هزيمة باسحاق شامير. عندها استوعب الليكود ضرورة احداث تغيير على برنامج الحزب حتى يتمكن من العودة الى السلطة، هنا بدا الحديث عن المرحلة الثالثة وهي مرحلة متردده اعترف بها الليكود بان الاردن هو الاردن وفلسطين هي فلسطين، وعندما وافق نتنياهو على برتكول الخليل في السابع عشر من شهر كانون ثاني ١٩٩٧ كان ذلك بمثابة ضربة كبيرة للفكرة الايدولوجية المتمثلة ب "اسرائيل الكبرى."
لكن مرحلة الاردن هو الاردن وفلسطين هي فلسطين لم تصمد طويلا لاسباب داخلية وامنية بإسرائيل، وقد رافق ذلك تطور آخر بالولايات المتحدة، ففي عام ١٩٩٦ وضعت مجموعة من المحافظين الجدد وعلى رأسهم ريتشادر بيرل ورقة سياسات بعنوان: A Clean Break وفيها طالبوا الغاء اوسلو واحتلال العراق. وهي الورقة التي قدمت الى نتنياهو عام ١٩٩٦ ثم إلى بيل كلينتون بشهر شباط عام ١٩٩٨ الا أن الأخير رفضها! وعلى نحو لافت تبلورت في هذه الفترة مجموعة من العوامل احدثت تأثيرا في فكر الليكود، وهنا نشير إلى فوز جورج بوش في الانتخابات الرئاسية الأميركية واحداث الحادي عشر من سبتمبر ووصول المحافظين الجدد إلى مفاصل اتخاذ القرار في البنتاغون وفي البيت الابيض ونجاح شارون في تقديم حربة ضد الفلسطينين ورفضه للسلام في سياق حرب اميركا ضد الارهاب العالمي وبن لادن. وبالفعل دفعت هذه العوامل بحزب الليكود الى التخلي عن مقاربة فلسطين هي فلسطين واتجه الحزب تدريجيا إلى تبني فكرة الخيار الأردني منقوصا، واللافت أن هذا التغير بدأ بالتبلور في صفوف الحزب في وقت كان موقف الحزب اللفظي هو دعم خيار حل الدولتين. وهذا هو السبب الرئيس الذي دفع إسرائيل إلى تجاهل ياسر عرفات والاصرار على الاحادية واللعب على التناقضات الفلسطينية الداخلية التي وقع ضحية لها كل من فتح وحماس وما زالا الى يومنا هذا.
فالهدف الأول لحزب الليكود هو التوسع على حساب الاراضي الفلسطينية مع الحفاظ على نقاء ويهودية الدولة، وبهذا المعنى يسعى الليكود إلى الانفصال عن الفلسطينيين خوفا من خطر ثنائية القومية، لكن الحزب لا يثق بالفلسطينيين ويرى أن انضمامهم للاردن هو في صالح المشروع الصهيوني. الراهن أنه وعلى العكس من الجانب العربي، فإن الاستراتيجيين الاسرائيليين كانو قد نشطوا في هذه المرحلة في طرح السيناريوهات التي تحافظ على مصالحهم وبخاصة الاستيطان والتوسع. في هذا السياق يمكن فهم دراسة غيورا ايلاند الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي في اسرائيل ابان فترة شارون وكان هو مهندس الانسحاب الاحادي الجانب. وهذا الرجل يتمتع بقدرة مذهله في التحليل الاستراتيجي وبالتالي عهد اليه شارون رسم خريطة الحل التي وضعها في دراسة معروفة نشرت في مركز بيغن سادات بجامعة بار ايلان وهي ذات الجامعة اليمينية المتطرفة التي كان فيها قاتل رابين يغال الون طالبا، وهذه هي المرحلة الرابعة التي أردت طرحها لأضيف إلى دراسة بوك ميلر الهامة. فالليكود بهذا المعنى أخرج من صفوفه كل الشخصيات التي كان يراودها فكرة حل الدولتين ومن بينهم اولمرت وتسيبي لفني لصالح شخصيات ترى ان الشريك في الحل هو الاردن.
وفي هذه الفترة نشط الأردن بالحديث عن حل الدولتين وتسوية قضية اللاجئين وتكاد لا تخلو زيارة لراس الدولة للدول الغربية الا ويتحدث عن حل الدولتين. والحقيقة هي أن الملك عبدالله الثاني يريد بالفعل المساهمة في اقامة دولة فلسطينية مستقلة وهو واضح في طرحه ولا يحاول أبدا تقويض مطالب الفلسطينيين في اقامة الدولة، فهو أي الملك عبدالله ليس له طموح شخصي في حكم الفلسطينيين غرب النهر.
وتزامن الطرح الرسمي في الاردن المتعلق بحل الدولتين مع وصول عدد من النيوليبراليين الى مفاصل صنع القرار بالاردن وهم مجموعة من السياسيين الذين سيطروا على طريقة تفكير الملك واوغلوا في سياسات افقرت المجتمع واضعفت الدولة، والأنكى أن هذه المجموعة كانت تؤمن بأن حل مشاكل الاردن الاقتصادية يتطلب استجابة الاردن لحل سياسي للصراع الفلسطيني الاسرائيليي يفضي إلى توطين اللاجئين لقاء مليارات من الدولارات تحصل عليهم الدولة الاردنية. وبلغ تهافت الطرح الرسمي إلى تبني خطاب التخويف من ان فرص حل الدولتين تتراجع، وهو خطاب واجه مشكلتين: أولا، لم يأخذ الغرب ولا إسرائيل التحذيرات الاردنية على محمل الجد وأصبحت التحذيرات الاردنية موضوعا للسخرية لدى الكثير من الخبراء الغربيين، وثانيا، لم ينجح الاردن في بلورة خطة بديلة للدفاع عن مصالحه في حال فشل حل الدولتين. بمعنى أن المنطق كان يجب ان يفضي الى ان يرافق التحذيرات الاردنية بزوال فرص حل الدولتين العمل على ايجاد خيار آخر او العمل على تنويع خيارات السياسة الخارجية بدلا من ابقائها في سياق التبعية للسياسة الأميركية!
والحال أن ديناميكية القوة في داخل اسرائيل كانت دائما تدفع باتجاه معادلة ناجزة وحيدة وهي انه كلما مر الوقت دون حل كلما اوغلت اسرائيل في قضم الارض الفلسطينية وبناء المستوطنات. وهذا هو تكتيك صهيوني كلاسيكي يستند إلى خلق وقائع على الارض Fait Accompli والطلب من العرب التعامل بواقعية مع هذه التغيرات وهو الامر الذي اكد عليه الرئيس بوش في رسالة كان قد بعث بها الى شارون عام ٢٠٠٤ وفيها تعترف الولايات المتحدة بان اي حل نهائي يجب ان يأخذ بعين الاعتبار هذه التغيرات.
بالنهاية استمرت اسرائيل وستستمر بنفس التكتيك الكلاسيكي الذي يفضي الى خلق وقائع على الاردن الى ان وصلنا الى نقطة يصعب معها الحديث بجدية عن دولة فلسطينية مستقلة لأن ما تبقى من ارض لا يسمح باقامة دولة مستقلة قابلة للحياة إلا اذا كانت مرتبطة مع الاردن. وهنا التغير الاخير في موقف الليكود وهو تبني الخيار الاردني بالممارسة على اعتبار أن الاردن وما تبقى من اراض فلسطينية يشكلان كيان سياسي واحد بحيث أن الاردنيين اقدر على التعامل مع الفلسطينيين وتقديم الخدمة الامنية لاسرائيل شريطة أن تكون المنقطة غرب النهر منزوعة السلاح. وهناك قناعة لدى اهم رموز حزب الليكود بأن الاردن ليس صادقا بالمناداة في حل الدولتين، وبالتالي يعتقد نتنياهو ومعه تيار مسيحي متصهين في اميركا ان الاردن لا يحتاج الا الى ضغط بسيط حتى يقبل بالخيار الاردني ناقصا، بمعنى أن المطروح ليس خيارا اردنيا كما تبناه حزب العمل ورفضه الملك حسين بل اقل من ذلك وهو أمر ان تحقق سينهي الاردن الذي نعرفه اليوم لصالح دولة ثنائية القومية مشكلة من اردنيين وفلسطينيين.
أردنيا، ثمة قراءة رسمية ساذجه يطرحها ناصر جودة تفيد بأن الأردن قادر على رفض أي حل للصراع الفلسطيني الاسرائيلي لا يخدم مصالحه. تصريحات جودة لا تعكس الواقع وهي إما أنها تعكس جهل الوزير والرسميين بالتحولات في المشهد الاقليمي أو انها تنطوي على تضليل متعمد للشارع الاردني حتى تبرر عجز السياسية الخارجية الاردنية وعدم قدرتها على خلق خيارات تخدم مصالح الاردن الوطنية بمعزل عن الآخرين. وللدقة هناك الكثير من الاراء التي تفيد بأن الأردن يريد أي حل يؤمن له مبالغ مالية تساعده في ازماته الاقتصادية، وهو أمر يرى صانع القرار انه ممكن، وربما الاسم الحركي لكل ذلك القول أن للاردن مصالح في قضايا الحل النهائي كما ذهب الى ذلك معروف البخيت في محاضرته الأخيرة.
ما ينبغي ان يستطبنه صناع القرار بالاردن هو اننا نعيش في مرحلة مختلفة وفي سياق مغاير عما كان قبل عقد من الزمان، فالمنطقة تشهد تحولات كبيرة، فالعراق في عين العاصفة، وسوريا تمر بمرحلة قد تفضي الى تقسيم أو على الاقل الى غياب الاستقرار لسنوات، والفلسطينيون في اضعف حالاتهم جراء الانقسام وفشل نخب اوسلو في الحكم، يضاف إلى ذلك الازمة الاقتصادية التي ضربت الاقتصاد الاردني والناتجة عن فشل السياسات الاقتصادية التي قللت من هامش الاردن في المناورة. ولو ضغطت واشنطن على الاردن المنكشف استراتيجيا والمعتمد بامنه على ما يسمى بالعلاقة الاستراتيجية مع اميركا فإنه لن يكون بوسع الحكومة الاعتراض وستتسلح الحكومة بحيل الواقعية السياسية وأن الضرروات تبيح المحظورات ولا يحتاج الامر سوى رئيس حكومة يجيد المراوغة حتى يمر المشروع. بمعنى لن يصمد النظام أمام رغبة اسرائيلية اميركية للقيام بدورة الوظيفي التاريخي في العلاقة مع اسرائيل؟!
بشكل عام يرى الاسرائيليون بأن للاردن وظيفتان شكلت مبرر الدعم الغربي له: الوظيفة الأولى هي ان يكون منطقة عازلة (Buffer Zone) للحفاظ على أمن اسرائيل وبالفعل قام الاردن بهذا الدور نظرا لمركزيته الجيوسياسية في اقليم ملتهب، والوظيفة الثانية هي استقبال الفائض السكاني للصراع وهو ايضا ما قام به الاردن بامتياز. السؤال ماذا لو اصر الغرب واسرائيل على ان يتوسع الاردن غرب النهر واحياء دوره في الضفة بصيغ كاذبه مثل الكونفدرالية؟! كيف سيؤثر ذلك على تركيبته الديمغرافية، هل سنشهد كيانا ثنائي القومية، ومن سيحكم به، وكيف سيكون هذا الكيان الجديد مستقرا دون احداث تغيير كبير على بنية الحكم؟
باختصار فإن الليكود بقيادة نتنياهو يستهدف الاردن والمفارقة أن هناك من بيننا من يعتقد ان نتنياهو رجل سلام!!! ربما الرسالة التي يجب على الاردن ارسالها ردا على ما تم تسريبه من ما تضمنه مشروع كيري هو اعلان الاردن رضفه لأن يلعب اي دور في الضفة الغربية وان يعلن البرلمان تشريعا لدسترة قانون فك الارتباط بدلا من بيانات الفزعة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وهي بيانات بالمناسبة لا ينتبه اليها احد في الغرب لأن الغرب يرى علاقته بالاردن تمر عبر شخص واحد فقط.