طلة بدر وجمال بدور
ثلثين الولد لخاله، ولي منهم اثنين إستعجلوا الرحيل، وثالث ما زال مرجِعنا ومظلتنا وكبيرنا الدكتور جميل عطا الله البدور أطال الله بعمره.
ثلثين الولد لخاله، مثل ذو معنى عميق درجت العرب على تكراره للتأكيد على علاقة القربى وان يأخذ الناس بعضهم قدوة لبعض، فالخال شقيق الأم وعزوتها وسندها، وقالت العرب عباءة الخال شرط للموافقة على تزويج الفتاة، لما لها من معنى بالموافقة وبيان السند والعزوة التي تتمتع بها الفتاة من لدن عائلتها، حيث يسلم العريس العباءة للخال والذي يقوم بدوره بوضعها على كتفي العروس عند خرجتها الى بيت الزوجية.
مقدمتي هذه، لأمهد لإحياء ذكرى وفاة خالي الدكتور جمال البدور، التي تصادف هذا اليوم ذكراها الثانية عشرة، والتي مرّت علينا ثقيلة مليئة بالحروب والإنتكاسات، وقد يكون عزاؤنا في ذكرى وفاة أبو طلعت أنه لم يعشها، لأنه مِمن جاهدوا للتخطيط لمستقبل زاهر، حسبي أنه ما زال بعيد المنال.
لقد ارسى هذا الجيل أسس الدولة الأردنية، فتحصل جمال البدور على ما تيسر من التعليم في الطفيلة في الثلاثينات من القرن المنصرم، وقد كان محظوظاَ كابن للشيخ عطا الله البدور الذي عمل موظفاً حكوميا في المالية وصاحب الهيبة والحضور في هذا المجتمع الريفي. وكان جمال قد حضر إلى عمّان ليكمل المترك الأردني عام 1951، فقد كانت الدولة الفتية بحاجة ماسة الى المعلمين، فما كان منه إلا أن التحق بسلك التعليم ليعمل مدرسا في الطفيلة لسنتين، وظل حلم الدراسة العليا يلازمه، فبادر للإلتحاق بالجامعة الأمريكية ببيروت وقد حصل منها على دبلوم في التخطيط والتنمية الريفية.
وقد كانت مصر مهوى أفئدة العرب وقبلتهم في السياسة والمعرفة، وقد كان قد سبقه اليها أخوه الأكبر جميل لدراسة الطب، مما سهل سفر جمال ومن بعده محمد البدور إلى القاهرة، حيث تحصل على ليسانس في الآداب عام 1957. وكغيرة من المصريين والعرب، فقد تشبع بالأفكار القومية الداعية للوحدة العربية ومناهضة الإستعمار. وحسبي أنه قد تأثر كثيراً بالفكر التشاركي السائد آنذاك في جمهورية مصر العربية وتطبيقاته العملية بعد تأميم قناة السويس وإنشاء التعاونيات والشركات المساهمة العامة حيث أصبحت جزءاً من شخصيته التي عمد الى نقلها للأردن كما سنرى لاحقاً.
عاد إبن الطفيلة إلى الأردن، ليمارس مهنة التعليم حتى العام 1960، وتدرج في الوظيفة من مُعلّم الى مُوجّه ومن ثم مُشرف تربوي، وقد خدم في نابلس قبل حرب الأيام الستة في 1967 كون الضفة الغربية كانت تابعة قانونياً للأردن، ومن ثم عاد الى الضفة الشرقية ليخدم في الكرك حيث ولد ابنه البكر طلعت رحمه الله.
وبهذه المناسبة أستطيع أن افترض بأن ما وصلت اليه المملكة الاردنية الهاشمية من رقي وتقدم في مجال التعليم يعود الى جيل أبو طلعت والأسماء كثيره كان اقربها اليه المرحوم مرضي القطامين وآخرين.
صحيح بأن مهنة التعليم تشكل شخصية صاحبها، لا بل انه يمكن القول بأن صاحبها هو مَن يشكل هذه المهنة، وقد كان هذا هو الحال مع أبو طلعت .. أستاذ بكل معنى الكلمة، متحدث بما يعلم ومستمع لكي يفهم، ولا أنسى تلك الليلة التي مسمرنا بها أمام التلفزيون لكي نتابع نزول أول إنسان على سطح القمر في تموز 1969.
ولشدة ولعه بالتخطيط، فقد احتصل على الدبلوم العالي بالتخطيط والإدارة من بيروت والذي فتح أمامه المجال ليقترب من سمو الأمير الحسن الذي كان يحمل هم التخطيط التنموي بالبلد، ليعّين بعد ذلك مديرا لمديرية المساعدات الفنية في المجلس القومي للتخطيط الذي اسس في العام 1971 وكنت أعتقد بأنه قد حُلّ بعد تخلي الدولة عن سياسة التخطيط الإستراتيجي التنموي إلا أني سمعت خلال مناقشة خطاب موازنة 2014 بأن المجلس قائم حتى أيامنا هذه وله ميزانية يصرف منها وبإسمها.
لقد كانت الدولة اليافعة بحاجة الى كل شيء تقريباً، فتم إنشاء الجامعة الاردنية، وتم بناء المطار وإنشاء الإذاعة والتلفزيون وبناء القوات المسلحة والأمن العام، والميناء وتأسيس شركات الفوسفات والبوتاس وسلطة وادي الأردن، وشركات الكهرباء والإتصالات والمياه وشبكة حديثة من الطرق والمجاري، هذا كله في ظل دولة محدودة الموارد وفي محيط قد يكون أكثر هيجاناً مما نحن فيه الآن.
نعم، جمال البدور ورفاق جيله الأكارم، هم من بنوا أردن الأمس الذي أصبحنا نخاف عليه أكثر مما مضى لأننا فقدنا البُناة الأوائل جسداً وروحاً، وما أحوجنا اليهم هذه الأيام.
لن أنسى ما حييت، وسأظل اذكرها اينما وجدت عندما اصطحبني خالي أبو طلعت في العام 1972الى الجمعية العلمية الملكية ليريني الحاسوب المركزي الذي تم تشغيله هناك، فقد كانت أجهزة كبيرة شاهدتها من خلف زجاج محكم الإغلاق، وقد كان يشرح لي بشغف وإفتخار بهذا الإنجاز الوطني الكبير. وقد شاءت الأقدار ان أعمل بعد تخرجي في هذا الصرح الكبير وأن أعمل في العام 2001على تصميم ذات المكان المخصص للحاسوب المركزي ليصبح المتنزه العلمي الذي يضم الآن مراكز عدة.
وبالعودة الى مسيرة أبو طلعت المهنية، فقد استمر في السعي لنيل أعلى الدرجات العلمية فقد احتصل على درجة الماجستير من جامعة ميشيجان في الإدارة، ومن ثم درجة الدكتوراة في إدارة التنمية والتي طبقها فعلياً بالجمعية كمدير إداري ونائبا للرئيس حتى العام 1989 والتي يشهد لها بامتلاكها لأفضل التعليمات الإدارية والمالية، إلى ما قبل إعادة الهيكلة في ظل رئاسة سمو الأميرة سمية بنت الحسن لمدينة الحسن العلمية.
لقد سطع نجم أبو طلعت في كيفية إدارته للجلسات وتطبيقه للخطط، بحنكة القائد ومنهجية المُعلّم، فكان أن إختاره الشريف زيد إبن شاكر لحمل حقيبة العمل في وزارة عام 1989، وربما لا يعلم الكثيرين بأنه كان من المعارضين لإستقدام العاملات الأجنبيات وكان لا يجيزها الا في حالات الضرورة القصوى.
وقد كانت فرصة وجوده على رأس وزارة العمل، لكي يشجع العمالة الوطنية على العمل اليدوي وقد كان له بصمات واضحة في مجال مؤسسة التدريب المهني الملحقة بوزارة العمل. وقد كان أبو طلعت ممارساً للأعمال الحقلية بيديه، فقد كان شديد التعلق بالحديقة التي كان يجد فيها سعادته برفقه أم طلعت أطال الله بعمرها.
لقد كان لي شرف القرب من خالي أبو طلعت لأنه اختارني لتصميم منزله الكائن في دابوق في العام 1990، والإشراف على تنفيذه، ولا أنسى أنه كان يخاطبني خطياً لشدة إيمانه بالتوثيق وحسبي أنه كان معجباً بالنتيجة على الرغم من بعض العثرات التي مرت من هنا أو هناك.
وبعد استقالة وزارة الأمير شاكر عُين مديرا عاما للمنظمة التعاونية حتى العام 1994، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه قبل بالمنصب الذي يناسب شخصيته كمغرم بالعمل التعاوني الذي يعتبر الذراع التنفيذي للتنمية المحلية، والتي وللأسف تواجه تراجعاً منذ سنوات.
لقد أمضى الدكتور جمال البدور سنواته الأخيره بالقراءة وإصلاح ذات البين والتقريب بين الناس، إلى أن فاجئه المرض اللعين، حيث توفي في مثل هذا اليوم 19 كانون الثاني 2002، وقد واريت جثمانه الطاهر بيدي الى مثواه الأخير في مقبرة العائلة بسحاب، واحتفظت برباط الكفن لسنوات بخزانتي اتلمسه كلما ضاقت بي الدنيا، ومتمنياً بأن يغدوا ثلثي كاتب هذه السطور لخاله يوماً من الأيام، فقد كان له طلة بدر وجمال بدور.