غزّة تحيي ترنيمة الربيع العربي وتنسف نظريّة المحاور
كتب تامر خرمه- متغيّرات الواقع فرضت استحقاقاتها على تنظيم الأخوان المسلمين بعد أن تكرّست عزلته منذ الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق عبد الفتّاح السيسي في مصر. هذه العزلة تجاوزت الساحة المصريّة إلى الأردن، خاصّة بعد تقارب المواقف الرسميّة في مصر والأردن والسعوديّة، حيث عمدت إلى محاربة الأخوان بل وشيطنتهم.
الأخوان فيما يبدو أعادوا قراءة وترتيب أولويّاتهم، التي تمحورت في السنوات السابقة حول السلطة وسبل الوصول إليها، لكن التنظيم العالمي استشعر خطر العزلة السياسيّة التي جاءت نتيجة مقاربة الأخوان السابقة من جهة، وتقاطع مواقف الأنظمة العربيّة الرسميّة في مواجهة طموح التنظيم من جهة أخرى.
حركة المقاومة الإسلاميّة حماس –المحسوبة على تنظيم الأخوان المسلمين- بدأت بمغازلة حليفة الأمس طهران التي تدرك بدهاء أبجديّات اللعبة السياسيّة بعيداً عن وهم "أزليّة المحاور والاصطفافات". هذا الغزل جاء بالتزامن مع العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، الذي فجّر موجات غضب عارمة على المستوى الشعبي العالمي وليس العربي فحسب. التظاهرات التي خرجت في العواصم العربيّة دعماً وتأييداً للمقاومة جاءت في الوقت المناسب بالنسبة للأخوان الذين تراجعت شعبيّتهم بشكل لافت في الفترة الأخيرة.
الأخوان وجدوا في هذا المتغيّر ما يستوجب العودة إلى البوصلة التي طالما شكّلت ركيزة التنظيم الأساسيّة في استقطاب الشارع: فلسطين. وفي الأردن نشطت الحركة الإسلاميّة تحت عنوان فلسطين والمقاومة، مهتبلة الحالة الشعبيّة الرافضة للعدوان الصهيوني والمنسجمة تماماً مع خطاب الكفاح المسلّح، باعتباره اللبنة الأساسيّة للمقاومة والتحرير.
ولكن ماذا كانت ردّة فعل الأنظمة الرسميّة العربيّة ؟
النظام المصري شدّد الخناق على غزّة. وبعد أن أهدت حركة المقاومة الإسلاميّة حماس عمليّة العاشر من رمضان العسكريّة لشهداء حرب أكتوبر 1973 من الجيش المصري، شدّد نظام الانقلاب قبضته على الحدود الفلسطينيّة- المصريّة، بل وتباهى بهدم المزيد من الأنفاق !
أمّا في الأردن الذي تعتقد فيه السلطة بأن موجة الربيع العربي قد انقضت وانتهى الحراك دون أن يفرض أي تغيير سياسي أو اقتصادي، فالقلق الرسمي يجد مبرّراته من عودة الزخم الشعبي تحت عنوان المقاومة وفلسطين، خاصّة وأن الحركة الإسلاميّة انسجمت تماماً في خطابها مع مشاعر الشارع الأردني، بل وبدأت بتسيّد المشهد السياسي عبر هذا الزخم.
المضحك المبكي في المشهد الأردني هو خطاب بعض النخب الانعزاليّة التي قرّرت الاصطفاف إلى جانب الأنظمة الرسميّة في مواجهة الحركة الإسلاميّة. المقصود هنا هم "شبّيحة" النظام الأسدي ومؤيّدوا الانقلاب في مصر، الذين توهّموا في السيسي صورة القائد الراحل جمال عبد الناصر.
في الأردن تجد من يبرّر قصف دمشق وحلب ودرعا وغيرها من المدن السوريّة بذريعة أن صواريخ المقاومة الفلسطينيّة صناعة سوريّة أو إيرانيّة، متجاهلين الحقيقة التاريخيّة بأن حريّة الشعب الفلسطيني لا يمكن أن تتحقّق على حساب الدم السوري بأيّ حال من الأحوال.
هؤلاء المحتكمون إلى منطق الأبيض والأسود في تفكيرهم عجزوا عن تفسير الموقف الرسمي المصري تجاه الحرب الدامية التي يشنّها العدوان على غزّة، كما عجزوا عن تفسير التقارب السعودي- المصري- الأردني الذي أفرغ نظريّة "الخنادق" والمحاور" من منطقها، خاصّة بعد انسجام المصالح الرسميّة العربيّة –بما فيها الأردن- مع رغبة إسرائيل بإنهاء المقاومة، فاستمرار الوضع القائم من شأنه أن يعيد الحراك الاحتجاجي الشعبي في الأردن إلى أوجه، تحت عنوان القضيّة الفلسطينيّة. عندها ستكون المخيّمات الفلسطينيّة جزء من هذا الحراك الذي ستنصهر فيه كافّة المكوّنات الاجتماعيّة. وهو بالتأكيد ما لا تريده السلطة في الأردن، ولا في السعوديّة بالطبع.
بالأمس القريب دعا رئيس الوزراء "الاسرائيلي" بنيامين نتنياهو إلى دعم الأردن في مواجهة تهديدات ما يسمّى بتنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام، وهنا يمكن القول وفقاً لنظريّة "المحاور" التي يتبنّاها شبّيحة النظام السوري إن نتنياهو "ممانع" كما هو نظام الأسد، نظراً لأنّه "يتخندق" ضدّ داعش ! فهذا المنطق الذي لا يعرف سوى لغة الأبيض والأسود قد يفضي إلى مثل هذه الاستنتاجات المضحكة.
واليوم يجد الأردن الرسمي في الحالة الشعبيّة المتضامنة مع المقاومة ما يؤرّقه، الأمر الذي بدا جليّاً في القوّة المفرطة التي استخدمتها قوّات الدرك في مواجهة المعتصمين قرب السفارة "الاسرائيليّة". تظاهر المئات في مختلف المدن الأردنيّة، بالتزامن مع تفاقم الأزمة المعيشيّة التي يعانيها كلّ مواطن، وإحجام السلطة عن التحرّك قيد أنملة باتّجاه إصلاح حقيقيّ، من شأنه أن يفجّر هبّة شعبيّة تأتي بما لا تشتهيه السلطة.
الوضع في الأردن ينطبق تماماً على مصر، فمضي زعيم الانقلاب بسياساته الاقتصاديّة المنحازة ضدّ السواد الأعظم من الجماهير المصريّة، في ظلّ تزايد التأييد الشعبي للمقاومة، وتعاطف المصريين مع غزّة –على نقيض الموقف الرسمي- من شأنه أن يفقد الانقلاب كلّ مسوّغاته الواهية أصلاً.
أمّا الحركة الإسلاميّة فإنّها أمام مفترق طرق بالغ الأهميّة، فهل ينجح الأخوان في العودة إلى صدارة المشهد وفي إعادة ترتيب أولويّاتهم وتحالفاتهم، بعيداً عن هوس السلطة والمنطق الإقصائي الذي هيمن على أخوان مصر قبل الانقلاب ؟ سؤال مازل رهنا بما يمكن للمقاومة أن تحقّقه على الأرض، وبمحصّلة توازنات القوى داخل الحركة.
وكذلك هو الوضع بالنسبة للقوى اليساريّة والقوميّة التي انشغلت بمبايعة السيسي، وتأييد جرائم الأسد، عن العمل على أرض الواقع، فهل ستنجح في العودة إلى صفوف الناس من بوّابة القضيّة الفلسطينيّة ؟
جدليّة العلاقة بين الثورات العربيّة والقضيّة الفلسطينيّة هو ما لم تدركه معظم القوى السياسيّة التي عجزت عن التفكير خارج صندوق "المحورين"، فمحوريّ الاعتدال والممانعة و"اسرائيل" على حدّ سواء يخشون نتائج هذه العلاقة في الداخل الفلسطيني وفي الساحات العربيّة على حدّ سواء. اما نظام الأسد فهو منشغل تماماً بقتل شعبه.
وفي النهاية فإن الأعلام الفلسطينيّة التي رفعها المتظاهرون في معظم العواصم العربيّة شكّلت صفعة قويّة لسجناء نظريّة المؤامرة، الذين قرّروا الانحياز ضدّ الربيع العربي وتخلّوا عن إيمانهم بالشعوب لصالح الأنظمة.