الصدام في الشارع.. تراجع لدور الدولة أم مخطط أمني ؟
جو 24 : إبراهيم قبيلات
تخلي الدولة عن القيام بمهامها تجاه المجتمع؛ يدفع البلاد إلى مرحلة أكثر من خطيرة، تأكل فيها العشائر بعضها بعضاً؛ ليبقى النظام... هذا ما تنبئ به أجواء البلد المشغولة بمعارك صغيرة.
لأشهر كثيرة خلت، كانت مضافات الأردنيين تشنف الآذان بما يجري فيها من حوارات لا تقل سقفاً وزخماً عن تلك التي يعقدها الحزبيون والمثقفون في قلب عمان، لكن الحال سرعان ما تبدل، وبدا وكأن الأمر مجرد غيمة سرعان ما انقشعت، ورجعت "حليمة لعادتها القديمة".
كثيرون راهنوا على قدرة الثورات العربية على إدخال تغييرات مهمة في حياة الأردنيين، ووضع عربتهم على الطريق الصحيح، لكن من الواضح أن التغيير حتى الآن لم يطل وعي الناس وتركيبتهم الثقافية وسلوكهم.
ما حدث ويحدث في الشارع الأردني من منازعات عشائرية شكلت مادة دسمة، يضعها المتحاورون كيفما شاؤوا على موائدهم الرمضانية؛ ليدللوا بها على عمق التفسخ المجتمعي، ويدمجون ما يحدث بالتالي : المشكلة تكمن بالأردنيين كمجتمع وليس كدولة، هم يقولون إن المجتمعات معرضة للمشاكل، لكن بالمقابل هناك قانون يلجأ إليه الجميع، لكن استسهال حمل السلاح يعني لهم فقدان الدولة لهيبتها وضعف ثقة المواطنين بأجهزتها.
بالمقابل، يذهب البعض إلى أن ما يجري هو جزء من خطة أمنية لإرهاب الناس من الغد، ملمحين إلى أن قراراً سيادياً اتخذ بانسحاب الدولة من المجتمع بمظاهره الأمنية والمؤسسية.
ولكن، لماذا تلجأ الدولة إلى هكذا خيارات، طالما أن المناداة بدولة القانون والمؤسسات باتت مطلب الجميع؟.
حادثة اعتصام موظفين في مصنع الاسمنت في منطقة الدامخي، جنوبي الأردن، قبل نحو يومين، وما تلاها من أحداث جعلت الأردنيين يقفون على رؤوس أصابعهم.
ببساطته وبعده عن تجميل الأشياء يقر موظف في (مجموعة المناصير)، طلب عدم ذكر اسمه؛ لحساسية الموضوع، بسوء إدارة المصنع، ويقول :"كان بالإمكان التعامل بشكل قانوني نقابي"، وفي حال فشلوا في مسعاهم، الموظف يقول "ما زال في العشائر كبار ويمكن اللجوء إليهم".
ما اقترحه الموظف ليس بالأمر الجلل، لكن ما سيقوله لاحقاً لن يرضي كثيرين، الرجل يقول: يبدو أن تجربة مجموعة المناصير السابقة مع أهالي منطقة الغور أغرت البعض في استنساخها مرة أخرى".
ويرجع التساهل الأمني الذي لوحظ في التعامل مع مسلحي المناصير، إلى كثرة الأسلحة في أيدي الموظفين، والخشية من توسيع دائرة الأزمة.
هذا التساهل هو ما دفع شباباً من ذوي المتوفى حمزة الرواحنة، من محافظة مادبا إلى الاعتداء على كازية المناصير في مدينتهم.
ولكن، كيف لنا أن نفهم هذا التساهل في الجنوب، فيما تنغمس الدولة من رأسها حتى أخمص قدميها بتكثيف وجودها في الشمال الأردني؛ تحسباً لأي طارئ.
سلامة السلايطة، ينظر إلى ما حدث في منطقته بقلق واستغراب شديدين، لكن ما يقلقه أكثر، هو التسهيلات اللوجستية التي منيت بها "مافيا" المناصير. حسب وصفه.
لا يجد الرجل تفسيراً أخر يمكنه أن يقنع به نفسه، خاصة بعد أن ذهب اتصال متصرف لواء الجيزة مع قوات الدوريات الخارجية والبادية لمنع المناصير من الوصول إلى المنطقة أدراج الرياح.
وعن القوات التي وصلت قلب المنطقة، يقول السلايطة: فوجئنا بحجم القوة المكونة من 15 باصاً وأكثر من 10 مركبات من نوع جيب، نصب على إحداهن رشاش 500وعلى الأخرى ميم 60، تدخل المنطقة، فيما كان ثلاثون من أبناء المنطقة متجمعين على بعد 3 كيلو متر من المصنع.
وفور وصول قوة المناصير إلى المصنع انشطروا شطرين: تمركزت الأولى على الخط الصحراوي، وتحديداً على مثلث المناصير، فيما ذهب الشطر الآخر إلى الشرق من الخط الصحراوي باتجاه المصنع، ليكتشف الشباب العزل أنهم في الوسط ولا راد لهم من عتاد المناصير الحي إلا جرف صغير تهافت إلى جوفه الجميع، وفق السلايطة.
يؤلم الرجل تصرف الأجهزة الأمنية المتواجدة في "المعركة"، ويقول :أكثر من 30 مسلحاً من الشرطة لم يحركوا ساكنا طوال نصف ساعة، هي عمر المواجهة، فذهب ضحيتها حتى اللحظة شخصان، وتسببت بإصابة خمسة أشخاص".
تلك الأجواء المشحونة هي ما جعلت سلامة وكثيرين من عشيرته يقولون :"هناك قرار سياسي يهدف إلى إشعال حرب أهلية بين العشائر مستغلين قوة المناصير المالية".
إن كان ما ذهب إليه السلايطة صحيح فلن تقف البلد عند هذا الحد، وسندفع إلى خيارات صعبة، أقلها تشكيل "مافيات" مسلحة نحتمي بها.
بالنسبة لرئيس اللجنة الوطنية العليا للمتقاعدين العسكريين د. علي الحباشنة، فإن غياب الدولة أمنياً عن الشارع؛ جاء لإرعاب الناس ولتذكيرهم بما حدث في مصر حين انسحبت الشرطة من المشهد ودبت الفوضى في المجتمع.
للأردنيين من أصل فلسطيني رسالة في السلوك الرسمي للدولة، يختصرها الحباشنة بقوله: تهدف حالة الفلتان والغياب الأمني إلى إخافة الأردنيين من أصل فلسطيني، ولتؤكد لهم بان مستقبلهم في خطر".
الحباشنة يرى أن الانشقاق الحاصل في الأردن، وظهور تقسيمات لم يألفها الأردنيون من قبل، لن تجدي نفعاً، والنتائج لن ترحم أحداً.
ويأمل أن تستيقظ الدولة وتأخذ دورها الحقيقي في المحافظة على أرواح الناس وأمنهم، ويقرأ اللعب على أوتار الهويات والعشائر والجغرافيا، بأنه بداية لجريمة منظمة تذكرنا بالمافيات الروسية.
المطلوب اليوم العمل على استبدال الثقافة المنتجة للعنف والعصبية، بأخرى تغذي الحوار وتقرب وجهات النظر... حينها لن يجد الناشطون في الشمال مثلاً ما يمنعهم من المبادرة لإطفاء شرارة الفتنة في الجنوب قبل أن تحرق قلوب الجميع.
تخلي الدولة عن القيام بمهامها تجاه المجتمع؛ يدفع البلاد إلى مرحلة أكثر من خطيرة، تأكل فيها العشائر بعضها بعضاً؛ ليبقى النظام... هذا ما تنبئ به أجواء البلد المشغولة بمعارك صغيرة.
لأشهر كثيرة خلت، كانت مضافات الأردنيين تشنف الآذان بما يجري فيها من حوارات لا تقل سقفاً وزخماً عن تلك التي يعقدها الحزبيون والمثقفون في قلب عمان، لكن الحال سرعان ما تبدل، وبدا وكأن الأمر مجرد غيمة سرعان ما انقشعت، ورجعت "حليمة لعادتها القديمة".
كثيرون راهنوا على قدرة الثورات العربية على إدخال تغييرات مهمة في حياة الأردنيين، ووضع عربتهم على الطريق الصحيح، لكن من الواضح أن التغيير حتى الآن لم يطل وعي الناس وتركيبتهم الثقافية وسلوكهم.
ما حدث ويحدث في الشارع الأردني من منازعات عشائرية شكلت مادة دسمة، يضعها المتحاورون كيفما شاؤوا على موائدهم الرمضانية؛ ليدللوا بها على عمق التفسخ المجتمعي، ويدمجون ما يحدث بالتالي : المشكلة تكمن بالأردنيين كمجتمع وليس كدولة، هم يقولون إن المجتمعات معرضة للمشاكل، لكن بالمقابل هناك قانون يلجأ إليه الجميع، لكن استسهال حمل السلاح يعني لهم فقدان الدولة لهيبتها وضعف ثقة المواطنين بأجهزتها.
بالمقابل، يذهب البعض إلى أن ما يجري هو جزء من خطة أمنية لإرهاب الناس من الغد، ملمحين إلى أن قراراً سيادياً اتخذ بانسحاب الدولة من المجتمع بمظاهره الأمنية والمؤسسية.
ولكن، لماذا تلجأ الدولة إلى هكذا خيارات، طالما أن المناداة بدولة القانون والمؤسسات باتت مطلب الجميع؟.
حادثة اعتصام موظفين في مصنع الاسمنت في منطقة الدامخي، جنوبي الأردن، قبل نحو يومين، وما تلاها من أحداث جعلت الأردنيين يقفون على رؤوس أصابعهم.
ببساطته وبعده عن تجميل الأشياء يقر موظف في (مجموعة المناصير)، طلب عدم ذكر اسمه؛ لحساسية الموضوع، بسوء إدارة المصنع، ويقول :"كان بالإمكان التعامل بشكل قانوني نقابي"، وفي حال فشلوا في مسعاهم، الموظف يقول "ما زال في العشائر كبار ويمكن اللجوء إليهم".
ما اقترحه الموظف ليس بالأمر الجلل، لكن ما سيقوله لاحقاً لن يرضي كثيرين، الرجل يقول: يبدو أن تجربة مجموعة المناصير السابقة مع أهالي منطقة الغور أغرت البعض في استنساخها مرة أخرى".
ويرجع التساهل الأمني الذي لوحظ في التعامل مع مسلحي المناصير، إلى كثرة الأسلحة في أيدي الموظفين، والخشية من توسيع دائرة الأزمة.
هذا التساهل هو ما دفع شباباً من ذوي المتوفى حمزة الرواحنة، من محافظة مادبا إلى الاعتداء على كازية المناصير في مدينتهم.
ولكن، كيف لنا أن نفهم هذا التساهل في الجنوب، فيما تنغمس الدولة من رأسها حتى أخمص قدميها بتكثيف وجودها في الشمال الأردني؛ تحسباً لأي طارئ.
سلامة السلايطة، ينظر إلى ما حدث في منطقته بقلق واستغراب شديدين، لكن ما يقلقه أكثر، هو التسهيلات اللوجستية التي منيت بها "مافيا" المناصير. حسب وصفه.
لا يجد الرجل تفسيراً أخر يمكنه أن يقنع به نفسه، خاصة بعد أن ذهب اتصال متصرف لواء الجيزة مع قوات الدوريات الخارجية والبادية لمنع المناصير من الوصول إلى المنطقة أدراج الرياح.
وعن القوات التي وصلت قلب المنطقة، يقول السلايطة: فوجئنا بحجم القوة المكونة من 15 باصاً وأكثر من 10 مركبات من نوع جيب، نصب على إحداهن رشاش 500وعلى الأخرى ميم 60، تدخل المنطقة، فيما كان ثلاثون من أبناء المنطقة متجمعين على بعد 3 كيلو متر من المصنع.
وفور وصول قوة المناصير إلى المصنع انشطروا شطرين: تمركزت الأولى على الخط الصحراوي، وتحديداً على مثلث المناصير، فيما ذهب الشطر الآخر إلى الشرق من الخط الصحراوي باتجاه المصنع، ليكتشف الشباب العزل أنهم في الوسط ولا راد لهم من عتاد المناصير الحي إلا جرف صغير تهافت إلى جوفه الجميع، وفق السلايطة.
يؤلم الرجل تصرف الأجهزة الأمنية المتواجدة في "المعركة"، ويقول :أكثر من 30 مسلحاً من الشرطة لم يحركوا ساكنا طوال نصف ساعة، هي عمر المواجهة، فذهب ضحيتها حتى اللحظة شخصان، وتسببت بإصابة خمسة أشخاص".
تلك الأجواء المشحونة هي ما جعلت سلامة وكثيرين من عشيرته يقولون :"هناك قرار سياسي يهدف إلى إشعال حرب أهلية بين العشائر مستغلين قوة المناصير المالية".
إن كان ما ذهب إليه السلايطة صحيح فلن تقف البلد عند هذا الحد، وسندفع إلى خيارات صعبة، أقلها تشكيل "مافيات" مسلحة نحتمي بها.
بالنسبة لرئيس اللجنة الوطنية العليا للمتقاعدين العسكريين د. علي الحباشنة، فإن غياب الدولة أمنياً عن الشارع؛ جاء لإرعاب الناس ولتذكيرهم بما حدث في مصر حين انسحبت الشرطة من المشهد ودبت الفوضى في المجتمع.
للأردنيين من أصل فلسطيني رسالة في السلوك الرسمي للدولة، يختصرها الحباشنة بقوله: تهدف حالة الفلتان والغياب الأمني إلى إخافة الأردنيين من أصل فلسطيني، ولتؤكد لهم بان مستقبلهم في خطر".
الحباشنة يرى أن الانشقاق الحاصل في الأردن، وظهور تقسيمات لم يألفها الأردنيون من قبل، لن تجدي نفعاً، والنتائج لن ترحم أحداً.
ويأمل أن تستيقظ الدولة وتأخذ دورها الحقيقي في المحافظة على أرواح الناس وأمنهم، ويقرأ اللعب على أوتار الهويات والعشائر والجغرافيا، بأنه بداية لجريمة منظمة تذكرنا بالمافيات الروسية.
المطلوب اليوم العمل على استبدال الثقافة المنتجة للعنف والعصبية، بأخرى تغذي الحوار وتقرب وجهات النظر... حينها لن يجد الناشطون في الشمال مثلاً ما يمنعهم من المبادرة لإطفاء شرارة الفتنة في الجنوب قبل أن تحرق قلوب الجميع.