احـزابنـا فـي غـرفــة الانـعــاش..!!
حسين الرواشدة
جو 24 : ظلت الحكومات في بلادنا بمثابة “الحزب” الاكبر الذي ينتزع كل شيء من المجتمع، وهي - بالطبع - لا يمكن ان تتطوع بانشاء من ينافسها، حتى لو كان شعار التعددية والمشاركة مطلوبا بالحاح، واذا كان حزب مثل جبهة العمل الاسلامي الذي خرج من عباءة الاخوان، استطاع في وقت ما ان يكون قادرا على التأثير والاستمرار، مهما قلنا في الاسباب التاريخية والواقعية لذلك، فقد بدأت كثير من الاحزاب الاخرى، الوسطية او اليسارية، تجرب حظوظها، لكنها للاسف وقفت بانتظار من يعترف بها، ومن يدعمها، و يقنع الناس بادائها، وهو انتظار طويل وغير مجد، فالاحزاب - شأن كل مؤسسات العمل الوطني - لا يمكن ان تنشأ وتنضج وتقنع الا اذا انجزت مهمتين : احداهما خطاب وطني مؤثر ومعه برامج عملية مقنعة تتولاها زعامات حقيقية مؤمنة بالعمل الحزبي وجاهزة للتضحية من اجله، وثانيهما: نماذج سلوكية وانسانية ووطنية على مستوى العمل والاشخاص، قادرة على الوصول الى الجماهير وانتزاع اعجابهم، وقادرة ايضا على التأثير في الحكومات وايجاد تسويات معها من منطلق خدمة المصلحة العامة لا مصلحة افراد او جهات. بمناسبة الحديث عن قانون الاحزاب المطروح للنقاش الان نقول : لا يمكن لأي قانون احزاب جيد ان ينتج - بالضرورة - حزبا جيدا ، كما لا يمكن لأي حكومة ان تمنح العمل الحزبي مشروعيته الجماهيرية ، وبدل ان نلقي اللوم على الحكومات فقط في اقصاء الفكرة الحزبية وتخويف الناس من الانضمام الى الاحزاب ، علينا ان نعترف بأن فشل الاحزاب في بلادنا يعود لقلة المؤمنيين بالعمل الحزبي وسط نخبنا ، وعدم استعدادهم للنضال والتضحية من اجل اهدافهم ، واستمراء حالة الفقر السياسي (العقم السياسي: ادق ) الذي افقدهم القدرة على التأثير في الناس .. وأبعدهم عن قضايا المجتمع ، وحصرهم في دوائر ضيقة لا تتجاوز مصالحهم ، ولا تصل الى الحد الادنى لمطالب التيارات الشعبية المختلفة وطموحاتها في الاصلاح والتغيير. في بلادنا لا توجد حياة حزبية فاعلة ولا عمل سياسي تتداوله الاحزاب المفترض ان تخرج من رحم المجتمع على شكل “تيار” لا مجرد تجمعات نخبوية منقطعة عن جماهيرها، لأنه - بصراحة - لا يوجد لدينا فكر يصلح لانتاج حزب ، ولا برامج معقولة وواضحة وحقيقية لجذب الناس اليه ، ولا ادبيات فكرية وسياسية يمكن ان تصنع “ثقافة”حزبية وتقنع العازفين عن ممارسة العمل العام بها. صحيح ان لدينا قوى سياسية تتأطر أحيانا بديكورات حزبية تمارس عملها المكتبي وتصدر بيانات موسمية ، وتؤيد او تعارض حسب الرغبة ، وصحيح ان لدينا قيادات حزبية او شكت ان تتقاعد ، ولم تمارس - رغم تجربتها - ما يفترض ان تمارسه من عمليات نقد ذاتي ومراجعة لمسيرتها ، ولم تحاول تطوير مضامين دعواتها وأدواتها ، ولكن الصحيح ايضا ان مقومات ولادة أي حزب سياسي في بلادنا لم تنضج بعد ، وان كل المحاولات التي تشهدها (لدينا اكثر من 30 حزبا) لم تخرج عن اطار الولادات القيصرية المبكرة التي غالبا ما تنتهي الى الحاضنات ، وتظل تحتاج الى مزيد من الاكسجين والتغذية والرقابة لتأكيد استمرارها وبقائها على قيد الحياة. ولادة الاحزاب في العادة تحتاج الى حاضنات شعبية تؤمن بالعمل السياسي ، والى مناخات سياسية تسمح بتداول السلطة ، والى زعامات وطنية تمتلك مفاتيح إقناع الجمهور بما تريده ، لكن الملفت ان الجمهور ما زال عازفا عن إبرام اي “عقد”مع النخب لإنتاج اي مشروع حزبي ، وكأنه لايجد ما يبحث عنه من مواصفات وشروط تدفعه للإعجاب بهذه النخب حتى يمنحها ثقة العمل بالنيابة عنه ، او الحديث باسمه ، او كأنه وصل الى درجة الاحباط من هيمنة المراسيم والهياكل بدل حضور المضامين والادوات الفاعلة ، او ربما لأنه لم يعد يحتمل مزيدا من الخيبات والوعود المغشوشة التي ركب البعض - بذرائعها - على ظهره ، وحين وصلوا لم يعد يسمع لهم صوت، او يرى لهم من اثر.. من قال ان مشكلة الاحزاب في بلادنا مالية ، ولدينا الاف الموسرين الذين يمكن لاحدهم ان يموّل عشرة احزاب ، ومن قال ان مشكلتها قانونية ، والقانون يتيح لخمسين شخصا ان يشكلوا حزبا ، ومن قال ان قضيتها مع الحكومات التي تخاصمها وتضيق عليها ، ومعظم الاحزاب التي نقرأ بياناتها لا تكاد تختلف مع الحكومات في شيء ، بل ان موقف الحكومات يتقدم عليها شعبيا في كثير من الاحيان. في بلاد العالم تخرج الاحزاب من رحم المجتمع ، ومن اعماق التيارات الشعبية التي تتوحدعلى رؤية ما ، وتتفاهم على مصالح معينة ، وتجتمع حول رموز وطنية محترمة ، وتلتزم ببرامج محددة ، وتنتزع حقوقها بنفسها ، وفي بلادنا ما يزال “الحزبيون” يتوسلون الى الحكومات ان تساعدهم في اثبات شهادة الولادة ، والتمويل ، وجذ ب الناس ، واصدار التشريعات المتسامحة وتحديد الكوتات في الانتخابات ، وبعد ذلك في منافستها على تداول السلطة (تصور،) واذا لم تفعل ذلك فانهم لا يتورعون عن انتقادها واتهامها بالضعف ، او المطالبة برحيلها لانها سقطت في الامتحان.
الدستور
الدستور