زمن الدفاتر
أحمد حسن الزعبي
خذوا مثلاً، قبل أيام بيع الدفتر الذي كان عالم الرياضيات ومؤسس علم الحاسوب «الان تورنغ» يدوّن عليه بعض ملاحظاته، ويرسم معادلاته الرياضية، بأكثر من مليون دولار، في مزاد علني خاص في نيويورك، ويعود الدفتر الذي تم بيعه بهذا المبلغ الخيالي إلى عام 1942. جدير بالذكر أن الدفتر الذي عليه بعض المسائل الرياضية والعمليات الحسابية لا تتجاوز صفحاته 56 صفحة، يعني كل صفحة من الصفحات التي خربش عليها «أبوالشباب» كُلفتها 18 ألف دولار.
بالمقابل، أذكر ونحن في الصف السابع، كان لدينا مدرّس متميّز في الرياضيات، له سمعة طيبة على نطاق المدينة كلها، ومشهود له بالعبقرية والإبداع، فقد كان من الأوائل، لكن بسبب ضيق ذات اليد قام بدراسة الرياضيات على نفقة وزارة التعليم.. المهم في نهاية الحصة السادسة طلب هذا المعلم من أحد طلاب الصف وضع دفتر العلامات على طاولته في غرفة المعلّمين، وبالفعل قام الطالب بتناول الدفتر من المعلم، ووضعه تحت إبطه، ولم يعد إلى الصف حتى الآن.
بقي اللغز محيرّاً أكثر من 25 سنة، أين اختفى الدفتر والفتى والمعلم؟ إلى أن جمعتني المصادفة على طابور المخبز، بعد أن تعرّفت إلى الزميل من خلال غمّازتي وجهه المميزتين عند الابتسامة، كان يشتري كعكاً غير محلّى، بعد أن أصابه السكري فور تقاعده من الجيش برتبة «وكيل»، وعند وصولنا لنحاسب على خبزنا وكعكنا، اكتشفنا أن من يجلس خلف «الكاشير» هو أستاذنا العبقري المبدع نفسه، صاحب السمعة الطيبة على نطاق المدينة كلها، مازحته قائلاً: «أستاذ.. هذا من سرق الدفتر»، فلم يأبه بنا، ولم يلتفت إلى القصة بمجملها، كان يضغط على أزرار ماكينة المحاسبة، ويقطع ورقة، ويعيد الباقي، ويفحص الأوراق النقدية ذات الفئة الكبيرة، كانت رموشه البيضاء الطويلة المتشابكة تخبئ نظراته المحبطة من طلابه ودفاتره وعبقريته.. من جديد قلت له: «أستاذ.. هذا من سرق الدفتر»، لكنه لم يجب، كان يسمع ما نقول، لكنه لم يكن يرغب في الإجابة.. ترى بماذا يجيب وقد خذلته الدفاتر!
ahmedalzoubi@hotmail.com
(الرأي)