أنا لا أطلب الكثير
أحمد حسن الزعبي
جو 24 :
الراي
طويل هذا اليوم.. وكأنه يوم رحيلك، تمرّ الثواني محمّلة بالأغاني، وتشعل الرسائل بالأماني، وتكتظ هواتف الأولاد برسائل التنسيق حول الهدايا والمواعيد.
تشعل الإضاءة باكراً في غرف الأمهات، و تزدحم محلات الحلوى بالزبائن المستعجلين، قوالب «الجاتو» تنزل تباعاً على «بترينة» الاحتفال مزينة بالفراولة وعبارات الوفاء للأم، وأنا أحمل ورقتي وانتظر.. كلما حضر شاب يافع مستعجلاً أعطيته دوري، وكلما جاء طفل يدفع ثمن الحلوى بأوراق من فئة الدينار عرفت أنها «جمعية» الأشقاء للعيد، ابتسمت وقدّمته على نفسي.. هم مستعجلون ليلحقوا الاحتفال الفوري بأمهاتهم بعيد الغروب.. أما أنا فبمن احتفل وعمري كله أصبح في الغروب؟..
أتقمّص دور أولادي أحياناً، علّه يصيبني بلل الحنين، أغشّشهم أنواع الهدايا، وأضع مالاً في «حصّالتهم» دون أن يشعرون،أدرّبهم كيف يفاجئون الأم بالاحتفال، متى يقبلون الجبهة واليدين.. أحاول أن أعيد تحنيط اللحظة، أسترجع الهالة، لكنني في منتصف الاحتفال أبكي كثيراً، لأن أمي غائبة..
من قال إننا نكبر، نحن نهرم فقط، نحن نتضخّم بهمومنا، بأوجاعنا، بأحلامنا، لكننا لا نكبر أبداً.. ما زلت أنسى الآية الثانية من «سورة الماعون» وأذكر صوت أمي وهي تذكّرني بها في بيتنا الشمالي قبل 38 سنة، أذكر أذكارها التي كانت تقرأها وأنا على يمينها قرب الخزانة، وأذكر حرف السين الذي يظهر جلياً عند التسابيح.. أذكر رائحة البيت ورطوبة الشتاء، وشكل السجادة الكبيرة «القطيفة» المعلّقة في صدر البيت، وحوار المزاريب وصوت الرعد الليلي، أشتم رائحة العجين النائم بالقرب منا كواحد منا الغافي بين الساطرة والصندوق، أذكر ملابسنا الثقيلة المعلقة في مسامير الباطون تعطي أشكالاً وخيالات تخوّفنا، فنغمس رؤوسنا قرب فراشك..
أنا لا أطلب الكثير، أطلب أن نعود صغاراً كما كنّا، واضحين كأوراق شجر، أنقياء كقطرة ماء، في رعايتك نأكل من رغيف كفّك.. ونعيش بسلامٍ في كنفك، وكلما أخافنا رعود المجهول، أو خيالات المستقبل نلوذ بثوبك الليلي نشتمّ عطر الأمان.. أنا لا أطلب الكثير، أنا فقط أطلب الا يتعمّق الرحيل.. أريدك أن تبقين سيدة البيت وسيدة الذاكرة وان أقمت هناك في «عرش الخلود»، أريد أن أجد مكاناً قربك مكاناً يشبه مكاني في بيتنا الشمالي... فالبيوت الشاهقة باردة يا أمي، البيوت المنخفضة الصغيرة القديمة أكثر دفئاً وأكثر أمومة، صدقيني أنا لا أطلب الكثير.. كل ما أطلبه الا تغيبي والا يغيب وجه وطني.. كل عام وأنت ياسمينة العمر...