منع من النشر في الدستور || الصحافة .. حريات أم لقمة عيش ؟!
بدل ان يبحث الصحفيون في يوم "الحريات " الصحفية عن التشريعات والمقررات والمناخات التي تسمح لهم باستنشاق انفاس الحرية والاستقلالية ، اصبحوا يبحثون عن "راتب" آخر الشهر ، او عن فرصة عمل بديلة بعد ان فصلوا من عملهم، او عن قرار رسمي يطمئنهم على استمرار صحفهم بالصدور ، وعدم اغلاقها بذريعة الافلاس.
ارأيت كيف تحولت المهنة الى "لعنة" تطارد اصحابها ، وكيف وقف الجميع صامتين امام "محنة" الصحافة الورقية التي لطالما تسابقوا للاستعانة بها في نشر اخبارهم وانجازاتهم ، او للتغطية على اخطائهم وتقصيرهم، وكيف تحول الصحفيون الى ايتام على موائد فارغة حتى من "مقبلات" الوعود وجبر الخواطر المكسورة.
من يستطيع ان يتحدث عن الحريات في وقت لا يجد فيه الصحفي لقمة العيش، ولا مصاريف الاولاد ، ولا يأمن على نفسه من الفصل ولا يعرف الى اي مهنة سيتحول بعد ان قضى عمره في مهنة المتاعب ، من يستطيع - كصحفي -ان يناقش مرتبة بلدنا على قائمة الحريات الصحفية في العالم وهو مهدد"بالانقراض" والصحافة التي يعمل فيها مدرجة على قائمة الاغلاق ، والحكومات التي يتهمها بتقييد الحريات لم تتحرك لفك القيود عن البطون الجائعة ، ورفع الظلم عن الاقلام المكسورة والمحبطة، وانقاذ اذرعة الدولة التي كانت اذرعة فتحولت الى اعضاء مشلولة وخشب مسندة ، معروضة للبيع او للتصفية.
لم يتحرك احد لكي يقول للصحفيين في يوم حرياتهم : شكرا لكم ، او لكي يستنكر المأساة التي تحاصرهم ، او لكي يهمس في آذانهم بكلمة تشعرهم انهم جزء من الوطن ، وتذكّرهم ان ما قدموه يستحق الاحترام.
بوسع الصحافة التي اقتنعت اخيرا انها مثل خبز الشعير مأكولة مذمومة ان تحدق في مرآتها لتكتشف ما فعلته بنفسها ، وما فعله الآخرون بها ، وتحاسب كل الذين استغلوا هذه المهنة الشريفة وركبوا موجتها واختطفوها ، حتى اذا وقعت في المصيدة او اصابها الهرم قذفوها بحجارتهم واطلقوا عليها الرصاص.
بوسع الصحافة التي تجتر خيبتها مع انكشاف ظهرها وافول شمسها ان تعيد حساباتها من جديد، فهزيمتها في معركة الحريات اوصلتها الى الهزيمة في مواجهة "الامعاء الخاوية" ، وفشلها في البقاء على كرسي "صاحبة الجلالة" انتهى بها الى الجلوس على الرصيف، كما ان قطيعتها مع جمهورها الحقيقي الذي هو الناس ، افقدها القدرة على تسويق بضائعها، واغرى مدمني التصفيق لاسدال الستارة على الفصل الاخير من مسرحية البقاء للاقوى .
عن اية حريات صحفية نتحدث ونحن نواجه صراعا على الوجود لا على الحدود، وعن اية مهنية نتساجل والصحفيون يودعون مهنتهم ويهاجرون الى البطالة ، او ينتظرون موعد اشهار وفاة صحافتهم الفقيدة للمشاركة في الجنازة التي ربما لن يسير فيها الا القليل من الذين ما زالت المهنة تسري في دمائهم ، وعن اية انحيازات اخلاقية لرسالة الصحافة يطالب البعض ونحن في "مأتم" اخلاقي انتحرت فيه قيم واعتبارات كنا نظن انها حقائق فاذا بها مجرد اوهام.
في يوم الحريات الصحفية لا يشعر الصحفي بالحزن على الحرية التي غابت او انتهكت، ولا على المهنة التي تم اغتيالها، ولا على تعب الليالي بين الحروف وحبر المطابع، وانما يشعر بالخيبة على دولة اكلت ابناءها، وعلى مجتمع تنكر للاقلام التي تدافع عن حقوقه وقضاياه ، حتى نسي ان يذكرها بخير على قاعدة "اذكروا محاسن امواتكم" .
ازمة الصحافة اليوم ليست فقط ازمة حريات ، وانما ازمة "رغيف" وجوع، وازمة ضمائر ماتت، وازمة احكام صدرت بالاعدام غيابيا، وهي اولا واخيرا ازمة دولة وليست ازمة صحافة فقط.