رجاء أوقفوا "ماكينة" الاستفزاز..!!
حسين الرواشدة
جو 24 : قبل ان نتزاحم في الندوات والغرف المغلقة لمناقشة خطر داعش الذي اصبح يحاصرنا من كل اتجاه ، وقبل ان نتلاوم حول من اوصلنا الى ما نحن فيه، ارجو ان نتوقف تماما عن “استفزاز” الناس ونكئ جراحاتهم واثارة مشاعر الغضب داخلهم ، وان نتواضع في استعراضاتنا السياسية ، فمجتمعنا اليوم احوج ما يكون الى نزع كل فتيل يثير قلقه ومخاوفه واشمئزازه ، سواء اكان هذا الفتيل على صيغة قرارات مستعجلة ، او سياسات خاطئة ، او وجوه غير مرحب بها ، او منطق اعوج يجاهر بالسوء ويسير بعكس اتجاه التاريخ. في الاسابيع المنصرفة يبدو ان البعض ذهب بعيدا في استغلال حالة الهدوء والصمت والخوف التي لجمت حركة الشارع ودفعته الى الاستقالة من السياسة ومطالبها المعروفة، واعتقد ان هذا التقدير للموقف كان مجانبا للصواب ، صحيح ان الناس خائفون على بلدهم وحريصون على امنه واستقراره ، وصحيح انهم ابتلعوا اوضاعهم الصعبة وقبلوا بنصيبهم المكتوب ، لكن الصحيح ايضا انهم لم يفقدوا احساسهم بما يجري حولهم ، ولم يتنازلوا عن حقوقهم ومطالبهم ، وعليه كان يجب ان لا نغامر بالغاء “الحسّاسات” السياسية والاجتماعية التي مكنتنا في المرحلة السابقة من امتصاص غضبهم وتجنب استفزازهم ، وان لا نجازف باحراق المراكب معهم ، او مدّ السنتنا لاحتمالهم وصبرهم، لاننا عندئذ سندفعهم لجدار اليأس، وسنقدم لهم دروسا في النكران والجحود بما يكفي لاقناعهم بالرد عليها بالمثل. ارجو ان لا يسألني القارئ الكريم عن نماذج من الاستفزازات التي يمكن ان تصدم المواطن ، فهو يعرفها ربما اكثر مني، لكن ما علاقة ذلك بالخطر الداهم الذي تمثله داعش على بلدنا..؟ هنا استأذن بالاشارة الى مسألتين : الاولى ان هوية هذا التنظيم اصبحت واضحة تماما ، فهو ينتسب الى عنوان اساسي هو “المظلومية” ، وسواء اكانت صحيحة او مغشوشة ، فانها مكنته من الانقضاض على نصف مساحة العراق وسوريا ، وامنت له حواضن اجتماعية بعد ان اصبح قدرها ومصيرها مرتبطا بقدره ومصيره، وقد حدث ذلك لسبب بسيط وهو ان الدولة سقطت من عيون هؤلاء بعد ان رفضتهم ولفظتهم ، وبالتالي لم يجدوا ما يلزم من دوافع للتضحية او الدفاع عن “الارض” لكي لا اقول الدولة ، كما لم يجدوا امامهم سوى مسرب داعش للخروج من الظلم الذي تعرضوا له ، اما المسألة الاخرى فهي ان خطر داعش القادم الينا من وراء الحدود يمكن مواجهته عسكريا وامنيا ، ولدينا الثقة باجهزتنا العسكرية والامنية للتعامل معه ، لكن يبقى خطر الفكرة وحواضنها الانتاجية والاستيعابية ، وليس سرا هنا ان لدينا متعاطفين مع داعش وغيرها من التنظيمات المسلحة التي تحارب في البلدان المجاورة، كما ان لدينا حواضن منتجة ومصدرة، لكن مجتمعنا ما زال يرفض “استيعاب” التطرف والارهاب ، ويحاول ان يطرده بكل ما لديه من قوة ، واخشى ما اخشاه ان نتفاجأ في لحظة ما باننا نواجه التطرف بمزيد من التطرف ، او اننا نصرف وصفات الاعتدال والانسجام من صيدلية التطرف بقصد او عن سوء تقدير ، ليس بالافكار والخطب فقط وانما بالممارسات ايضا، وعلى رأسها “استفزاز “ الناس ، وهنا فان التعاطف مع التطرف وتنظيماته لن يكون ايمانا بالفكرة وانما نكاية بالواقع ، وفي النتيجة لن يكون ثمة فرق بين المسألتين. لا يخطر في بالي ابدا ان ادعو الى “استرضاء” الناس على حساب القانون ، لكن لا بد ان نسأل انفسنا : ما هو مصير آلاف الموظفين والعاملين الذين قررنا قطع ارزاقهم والقاءهم في الشارع دون ان يكون هناك معايير لانهاء خدماتهم ووظائفهم، وما هو سبب صمتنا امام “الموبقات” التي تحدث في مجتمعنا على مرأى ومسمع منا دون ان نتحرك لمنعها ، ثم ماذا عن جيوب الفقر التي توسعت ، والبطالة التي تمددت، وموازين العدالة التي اختلت ، والحريات التي انسدت ابوابها ، ومظاهر الاثراء التي ما تزال تخرج من عباءة الفساد، ايضا لا بد ان نسأل انفسنا عن بعض السياسات والمقررات التي ادارت ظهرها للناس وتنكرت لصبرهم ، وعن انهيار المؤسسات وتراجع المحاسبات ، وقبل ذلك عن مبررات استفزاز الناس بدل التواضع معهم في الخطاب ، وبدل الرد على تحيتهم بمثلها او باحسن منها، على صعيد كل رسالة تصدر من هنا او هناك. ادرك تماما ان مجتمعنا تعرض لاصابات بالغة وانه يجاهد لتجاوزها ، لكن لا بد ان نعترف ان الزمن لايعمل الان لصالحنا ، وان اية هشاشة تصيبنا سيترتب عليها اخطار لا طاقة لنا بمواجهتها ، واقل ما يمكن ان نفعله هو ان نتصالح مع انفسنا ونحافظ على تماسك مجتمعنا ، ونتوقف عن مغامراتنا التي تصب في خزان الكيد الذي يضمره لنا الاخرون، وليس داعش وحدها.