قصص من (مأوى العجزة)..
لا شيء اقسى على الاباء من عقوق ابنائهم ، ولا يوجد في الدنيا ما يعوض اما او ابا عن لحظة يشعران فيها بافتقاد ابنائهم - وهم احياء - او بنكرانهم وعدم رعايتهم لهم واهتمامهم بهم ، وما اكثر القصص التي نتداولها في مجتمعنا حول ابناء طردوا آباءهم الكبار من بيوتهم واودعوهم دور المسنين ، او اخرين اذعنوا لطلبات زوجاتهم فساموا آباءهم صنوف القهر والعذاب.
لا يمكن ، بالطبع ، اختزال قصص العقوق فيما يصلنا من دور المسنين فقط ، فالمسكوت عنه داخل البيوت التي انسحب فيها الابناء من قيمهم ودورهم في رعاية آبائهم اكبر بكثير من هذه الاعترافات الحزينة والمؤلمة التي يعبر عنها اباؤنا وامهاتنا المقيمون في مآوي العجزة ، اما لماذا يحدث ذلك في مجتمعنا الذي ما يزال يتمتع بدرجة ما من العافية الاجتماعية والدينية ، فالاسباب كثيرة ، بعضها يتعلق بالتربية وبعضها بضعف الوازع الديني. واخرى بعجز وسائل التوجيه واختلاف مصادرها ، او بانشغال الاباء وتقصيرهم بحق ابنائهم او بما طرأ على مجتمعنا من تحولات في مجال القيم والاخلاق واستيراد الافكار والحلول.. وغيرها.
ليس ثمة مبرر للعقوق اطلاقا ، فقد ربط الله تعالى بين توحيده وبين الاحسان للوالدين ، والى درجة انه لا يجوز ان نتوجه اليهما بأي كلمة مؤذية ، حتى لو كانت أُفْ ، لكن ذلك لا يعفي الاباء مما قد يقترفه ابناؤهم بحقهم ، فقد روى الاصمعي عن رجل من الاعراب قال: خرجت من الحي اطلب اعق الناس وابرهم ، حتى انتهيت الى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو لا تطيقه الابل في الهاجرة ، وخلفه شاب في يده رشاء اي حبل ملوي يضربه به ، قد شق ظهره بذلك الحبل ، فقلت: اما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟ اما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل حتى تضربه؟ قال: انه مع هذا ابي ، فقلت: فلا جزاك الله خيرا. قال: اسكت ، فهكذا كان هو يصنع بأبيه.
اعرف انه لا يوجد لدينا تشريعات رادعة تحاسب الاباء على تقصيرهم بحق ابنائهم ، او تعاقب الابناء على عقوقهم وجحودهم ، وتمنعهم من ادخال ابائهم الى مأوى العجزة ولكن ثمة سلطة اخلاقية لا بد ان تفعل في مجتمعنا لرعاية هؤلاء المسنين على الاقل وتوفير ما يحتاجونه من اهتمام ورعاية ، وقد سمعت قبل ايام ان سيدة في مصر رفعت قضية تطالب فيها الحكومة بتخصيص راتب شهري يكفل لها الحياة الكريمة بعد ان عجز ابناؤها عن اعالتها ، وحكم لها بمبلغ (500) جنيه من الخزينة بيت مال المسلمين ، فهل يمكن لهذه السابقة القضائية ان تطمئن المسنين المعوزين في بلادنا على مستقبلهم؟
قبل ان اختم ، اذكر بقصتين مؤلمتين حدثتا في احدى دور المسنين الموجودة في بلادنا ، احداهما حول ابناء اودعوا والدهم الدار ، وحين توفي تم ابلاغهم لاستلام جثمانه ، لكنهم رفضوا ، مما دفع المشرفين على الدار على تولي اجراءات الدفن على نفقة الدار بالتعاون مع وزارة التنمية الاجتماعية وامانة عمان ، والاخرى حول امرأة احضرتها بناتها الى احدى دور المسنين ، على اساس انها سيدة وجدت تحت شجرة ، وكانت ملقاة في سيارة بكب اب بملابس قذرة كأنها لم تستحم منذ عشر سنوات ، وتبين لاحقا ان هذه المرأة هي امهن ، وقد بقيت في الدار فترة وجيزة ثم ماتت.
(الدستور)