من الدولة العميقة إلى الدولة الاسلامية
د. حسن البراري
جو 24 : ركّزت أغلب المؤلفات والدراسات المنشورة في تفسيرها لانتكاسة الانتفاضات العربية التي اندلعت مع مطلع عام 2011 على الانقسامات المجتمعية وعدم وجود اتفاق بين مكونات المجتمع الواحد على شكل ووتيرة التغيير المنشود، وشكلت أسئلة الانتقال إلى ماذا وكيف جوهر الخلاف بين قوى التغيير بصرف النظر عن هويتها (قوى تريد تغييراً راديكالياً للاستئثار بالسلطة وقوى تريد الانتقال إلى حكم ديمقراطي)، وهي خلافات استخدمتها الدولة العميقة لضرب الانتقاضات، وغاب عن المشهد كتابات تستخدم مفاهيم وتجارب تاريخية سابقة أكثر عمقا لشرح فشل ثورات وانتفاضات الربيع العربي في تحقيق التغيير المنشود.
المؤرخ الفرنسي جين بيريه فيليو – والذي يعمل أستاذا للدراسات الشرق أوسطية بجامعة سيانس بو في باريس – وضع كتابا بعنوان "من الدولة العميقة إلى الدولة الإسلامية" يشرح فيه لماذا انتهت انتفاضات الربيع العربي بالشكل الذي انتهت إليه ولماذا ظهر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام في هذا التوقيت على وجه التحديد. في الكتاب تفاصيل كثيرة لمنطقة تمتد من اليمن إلى الجزائر لكن مراجعتي لهذا الكتاب ستقتصر على مفهومين قدمهما البرفسور فيليو هما: الدولة العميقة والمماليك الجدد كمفهومين تاريخيين لاستيعاب حاضر المنطقة والتعقيدات والتشابك في السياسة الشرق أوسطية.
في كتابه المشار إليه استثنى فيليو تونس من التحليل باعتبارها تجربة ناجحة للانتقال للحكم الديمقراطي. ويلقي باللوم في فشل انتفاضات الربيع العربي وبروز داعش على الدولة العميقة والثورة المضادة، وهنا يتحدث عن دور مافيات الأمن العربي في تشكيل السياسة في الشرق الأوسط، فهذه الأجهزة الأمنية والقادة الطغاة المُصرّين على البقاء في الحكم بصرف النظر عن التكلفة لعبت الدور الأبرز في ظهور التطرف الذي نشهده، ويرى المؤلف أن هناك محاكاة للتجربة التركية الكمالية والتكتيكات الكمالية في توظيف الأذرع الأمنية الداخلية المتمثلة بالدولة العميقة في سياق لعبة البقاء السياسي للقادة والأنظمة.
فلم تكتف هذه الأنظمة بالتهديد والوعيد والسجن والقتل بل أطلقت من سجونها سراح متطرفين وتم تسليحهم وتمويلهم لانضاج السلفية الجهادية على أمل إقناع الغرب بدعم الانظمة الديكتاتورية، وهنا نلاحظ محاولات روسيا وإيران في إعادة تأهيل بشار الأسد ليكون وكيلا للغرب في محاربة الإرهاب. وبهذه الطريقة تمكنت الدولة العميقة أيضا في شق صفوف المعارضة وقوى التغيير، وفي تفاصل الكتاب ما يؤسس لحالة مقنعة كُتبت بشغف ومهنية أكاديمية حول آليات عمل الدولة العميقة التي تشبه إلى حد كبير عصر المماليك في مصر، فمماليك سوريا الجدد ليسوا مسؤولين فقط عن الخراب الذي أصاب البلد بل وعن ظهور داعش على المسرح العملياتي والسياسي. ويرى المؤلف بأن هذه الأنظمة لعبت بنيران الجهاديين لمنع التحول الديمقراطي أو المشاركة في السلطة.
وفي السياق يقدم المؤرخ وجهة نظر صارمة بشأن اغتصاب المماليك الجدد السلطة في عهد الاستقلال بكل من سوريا واليمن ومصر والجزائر. ففي فترة الخمسينيات والستينيات ظهرت مجموعات عسكر استولت على السلطة بانقلابات عسكرية وحاولت بناء شرعيتها كما هو الحال مع المماليك كمدافعين ضد "المغول" وطعمت خطاباتها بمعاداة لفظية للإمبريالية وإسرائيل، واستمرت بالحكم بشكل أو بآخر إلى يومنا هذا. وهنا يجادل المؤلف مطولا في كتابه بأن الدولة العميقة استندت إلى الأجهزة الأمنية وكذلك استندت إلى "الوحش" الجهادي المتطرف الذي أوجدته ما وفرّ فرصة كبيرة للمستبدين لخلط أوراق الانتفاضات العربية.
بمعنى آخر يرى المؤلف أن الدولة العميقة لم تكن لتتسامح مع زخم التغيير وعملت على تقويضه مبكراً، فبعد رحيل حسني مبارك انتصرت الثورة المضادة في مصر والتي استلزم نجاحها إخضاع وقمع الإخوان المسلمين، لكن من جانب آخر هناك درس يتوصل إليه فيليو يتمثل بنجاح التجربة التونسية وفشل نظيرتها المصرية، وفي هذا السياق يجادل فيليو بأن الفوز في الانتخابات وفي صناديق الاقتراع في بيئة عاصفة ومعقدة لا يفترض أن يفسر وكأنه شيك على بياض. وما من شك أن الفشل في استبطان هذا الدرس مبكرا هو ما جلب السيسي للسلطة ما أوجد بدوره واقعا جديدا ربما أسوأ من أيام حسني مبارك.
لم يفوّت الطغاة في عالمنا العربي فرصة اللعب على مخاوف الغرب من التطرف والإرهاب، وبالفعل شكلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر كنزا كبيرا للطغاة العرب وعصابات المافيا الأمنية التابعة للنيل من كل قوى التغيير بصرف النظر عن الهدف النهائي لهذه القوى. فمثلا أحكم علي عبدالله صالح قبضته على السلطة في الحرب على القاعدة بينما كان في السر يتعاون معهم للحفاظ عليهم كخطر مفيد. وأثبتت مصر فائدتها بالحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل، وكأن كل ذلك لا يكفي إذ غازل البريطانيون علنا معمر القذافي واستقبله توني بلير في لندن!
السياق العام للكتاب يظهر أن الفوضى تستخدم من قبل أنظمة الحكم الاستبدادي لتبرير القمع، فبشار الأسد ساند المتمردين السنة في العراق بعد عام 2003 في وقت استعمل فيه الفوضى التي دبت بعد زوال نظام صدام حسين لتبرير القمع في سوريا، وقد التقى علي مملوك أحد أهم قادته الأمنيين مع مسؤولين أمريكيين وافتخر بقدرة سوريا على اختراق الجماعات الإرهابية. وحتى في العراق اتبع نور المالكي استراتيجية مدروسة ومحسوبة بدقة لتأجيج تمرد سني وهو ما أفضى في نهاية المطاف لتكوين البيئة الحاضنة لتنظيم متطرف مثل داعش.
يقدم الكتاب مادة فيها عمق كبير لديناميكية الفوضى والصراع للاستئثار بالسلطة ويقدم مقاربة جديدة تستحق القراءة والتمحيص، غير أن أكثر ما يستفز العقل هو أن شعوب المنطقة محكوم عليهم بالبقاء كبيادق في لعبة مميتة بين الطغاة والجهاديين.
المؤرخ الفرنسي جين بيريه فيليو – والذي يعمل أستاذا للدراسات الشرق أوسطية بجامعة سيانس بو في باريس – وضع كتابا بعنوان "من الدولة العميقة إلى الدولة الإسلامية" يشرح فيه لماذا انتهت انتفاضات الربيع العربي بالشكل الذي انتهت إليه ولماذا ظهر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام في هذا التوقيت على وجه التحديد. في الكتاب تفاصيل كثيرة لمنطقة تمتد من اليمن إلى الجزائر لكن مراجعتي لهذا الكتاب ستقتصر على مفهومين قدمهما البرفسور فيليو هما: الدولة العميقة والمماليك الجدد كمفهومين تاريخيين لاستيعاب حاضر المنطقة والتعقيدات والتشابك في السياسة الشرق أوسطية.
في كتابه المشار إليه استثنى فيليو تونس من التحليل باعتبارها تجربة ناجحة للانتقال للحكم الديمقراطي. ويلقي باللوم في فشل انتفاضات الربيع العربي وبروز داعش على الدولة العميقة والثورة المضادة، وهنا يتحدث عن دور مافيات الأمن العربي في تشكيل السياسة في الشرق الأوسط، فهذه الأجهزة الأمنية والقادة الطغاة المُصرّين على البقاء في الحكم بصرف النظر عن التكلفة لعبت الدور الأبرز في ظهور التطرف الذي نشهده، ويرى المؤلف أن هناك محاكاة للتجربة التركية الكمالية والتكتيكات الكمالية في توظيف الأذرع الأمنية الداخلية المتمثلة بالدولة العميقة في سياق لعبة البقاء السياسي للقادة والأنظمة.
فلم تكتف هذه الأنظمة بالتهديد والوعيد والسجن والقتل بل أطلقت من سجونها سراح متطرفين وتم تسليحهم وتمويلهم لانضاج السلفية الجهادية على أمل إقناع الغرب بدعم الانظمة الديكتاتورية، وهنا نلاحظ محاولات روسيا وإيران في إعادة تأهيل بشار الأسد ليكون وكيلا للغرب في محاربة الإرهاب. وبهذه الطريقة تمكنت الدولة العميقة أيضا في شق صفوف المعارضة وقوى التغيير، وفي تفاصل الكتاب ما يؤسس لحالة مقنعة كُتبت بشغف ومهنية أكاديمية حول آليات عمل الدولة العميقة التي تشبه إلى حد كبير عصر المماليك في مصر، فمماليك سوريا الجدد ليسوا مسؤولين فقط عن الخراب الذي أصاب البلد بل وعن ظهور داعش على المسرح العملياتي والسياسي. ويرى المؤلف بأن هذه الأنظمة لعبت بنيران الجهاديين لمنع التحول الديمقراطي أو المشاركة في السلطة.
وفي السياق يقدم المؤرخ وجهة نظر صارمة بشأن اغتصاب المماليك الجدد السلطة في عهد الاستقلال بكل من سوريا واليمن ومصر والجزائر. ففي فترة الخمسينيات والستينيات ظهرت مجموعات عسكر استولت على السلطة بانقلابات عسكرية وحاولت بناء شرعيتها كما هو الحال مع المماليك كمدافعين ضد "المغول" وطعمت خطاباتها بمعاداة لفظية للإمبريالية وإسرائيل، واستمرت بالحكم بشكل أو بآخر إلى يومنا هذا. وهنا يجادل المؤلف مطولا في كتابه بأن الدولة العميقة استندت إلى الأجهزة الأمنية وكذلك استندت إلى "الوحش" الجهادي المتطرف الذي أوجدته ما وفرّ فرصة كبيرة للمستبدين لخلط أوراق الانتفاضات العربية.
بمعنى آخر يرى المؤلف أن الدولة العميقة لم تكن لتتسامح مع زخم التغيير وعملت على تقويضه مبكراً، فبعد رحيل حسني مبارك انتصرت الثورة المضادة في مصر والتي استلزم نجاحها إخضاع وقمع الإخوان المسلمين، لكن من جانب آخر هناك درس يتوصل إليه فيليو يتمثل بنجاح التجربة التونسية وفشل نظيرتها المصرية، وفي هذا السياق يجادل فيليو بأن الفوز في الانتخابات وفي صناديق الاقتراع في بيئة عاصفة ومعقدة لا يفترض أن يفسر وكأنه شيك على بياض. وما من شك أن الفشل في استبطان هذا الدرس مبكرا هو ما جلب السيسي للسلطة ما أوجد بدوره واقعا جديدا ربما أسوأ من أيام حسني مبارك.
لم يفوّت الطغاة في عالمنا العربي فرصة اللعب على مخاوف الغرب من التطرف والإرهاب، وبالفعل شكلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر كنزا كبيرا للطغاة العرب وعصابات المافيا الأمنية التابعة للنيل من كل قوى التغيير بصرف النظر عن الهدف النهائي لهذه القوى. فمثلا أحكم علي عبدالله صالح قبضته على السلطة في الحرب على القاعدة بينما كان في السر يتعاون معهم للحفاظ عليهم كخطر مفيد. وأثبتت مصر فائدتها بالحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل، وكأن كل ذلك لا يكفي إذ غازل البريطانيون علنا معمر القذافي واستقبله توني بلير في لندن!
السياق العام للكتاب يظهر أن الفوضى تستخدم من قبل أنظمة الحكم الاستبدادي لتبرير القمع، فبشار الأسد ساند المتمردين السنة في العراق بعد عام 2003 في وقت استعمل فيه الفوضى التي دبت بعد زوال نظام صدام حسين لتبرير القمع في سوريا، وقد التقى علي مملوك أحد أهم قادته الأمنيين مع مسؤولين أمريكيين وافتخر بقدرة سوريا على اختراق الجماعات الإرهابية. وحتى في العراق اتبع نور المالكي استراتيجية مدروسة ومحسوبة بدقة لتأجيج تمرد سني وهو ما أفضى في نهاية المطاف لتكوين البيئة الحاضنة لتنظيم متطرف مثل داعش.
يقدم الكتاب مادة فيها عمق كبير لديناميكية الفوضى والصراع للاستئثار بالسلطة ويقدم مقاربة جديدة تستحق القراءة والتمحيص، غير أن أكثر ما يستفز العقل هو أن شعوب المنطقة محكوم عليهم بالبقاء كبيادق في لعبة مميتة بين الطغاة والجهاديين.