أثينا تصدمنا مرتين...!!
حسين الرواشدة
جو 24 : تبدو اثينا هادئة جداً : آلاف السياح يتجولون في شواع “الاوغرا” ثم يتابعون مسيرهم الى “الاكروبولس”،لا يوجد اي استنفار أمني في الطرقات،الموسيقى التي يعزفها الشباب في ساعات الليل للمارة تشد العابرين، الاسواق ما زالت مفتوحة ومكتظة بالزبائن رغم اوضاع “المعيشة” التي تراجعت نسبياً، لكن يبدو أن الناس “تكيفوا” مع التقشف. لا يستطيع اي زائر لأثينا أن يهرب من سطوة “التأريخ” ولا من دهشة الحاضر، من هنا انطلقت “الديمقراطية” قبل نحو 3500 سنة وكذلك ثقافة المسرح والفنون المختلفة، وهنا ايضاً كان مهد الحضارة الغربية، فيها اقيمت الالعاب الاولمبية للمرة الاولى قبل 119 سنة، وما يزال “استادها” الرياضي الذي يستوعب نحو 80 الف متفرج شاهد على هذا التاريخ، لا يمكن –بالطبع- ان تستعيد ماحدث في خمسة الاف سنة، لكن أمام “الدهشة” من انزياح هذا التاريخ الطويل وصورة الواقع الذي يحاول أن يحاكي ما تبقى في ذاكرة الناس منه، تجد نفسك محاصراً بالاسئلة والمقارنات، وما اثقل هذه الاسئلة والمقارنات على زائر تطارده “لعنة” التاريخ، واوجاع الحاضر، المنتسبين معاً الى أمة كانت في لحظة ما تقتحم الاسوار وتفتح العواصم ثم تحولت الى “اجساد” مهاجرة تنام على الارصفة وأمام المقرات الرسمية. تلك –بالطبع- قصة طويلة،السؤال الاهم الذي يتردد في اثينا اليوم هو “الازمة” الاقتصادية التي صحا عليها اليونانيون، أما الاجابة السريعة فهي “الفساد” والبذخ اللذين ما زالا لغزا حتى بعد مجيء اليسار الى الحكم، ورغم ان موجة الاحتجاجات اختفت تماما الاّ ان “السياسة” لم تمت، كما ان الحياة لم تتوقف. هذا بالطبع درس يمكن ان نتعلم منه في بلداننا التي يحاصرها الفساد والبذخ مثلما يحاصرها الجوع ايضاً. في فندق “بريطانيا العظمى” المقابل للبرلمان، اجتمع عدد من القيادات الدينية الاسلامية والمسيحية لمناقشة الاوضاع في منطقتنا، المؤتمر نظمه مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز للحوار بين اتباع الاديان، كان الجو ساخناً بما يكفي لاشتعال الافكار والاوجاع ايضاً،مشهد الاستلام والتسليم للحراس الواقفين على بوابه “البرلمان” ربما كان الوحيد الذي “كسر” حدّة السخونة والاحساس بالخيبة مما وصلت اليه امتنا من كوارث، لكن ما إن يمتد بصرك الى الشارع الاخر وترى “اللاجئين” السوريين وهم يفترشون الارصفة حتى تدرك انه لا سبيل للهروب من المأساة الى تطاردك اينما ذهبت، حتى وانت تتابع ما يلقى هؤلاء من ترحيب على الضفة الاخرى ومن “عقوق” في بلدانهم التي لم تخجل من “جثة” الطفل الكردي الذي لفظه البحر، ولم تعتذر مجرد اعتذار للذاكرة التي حفرت فيها وهم “بلاد العرب اوطاني” . تصدما اثينا مرتين : مرة حين تصر على الديمقراطية التي خرجت من تربتها ذات تاريخ ، ومرة حين تعكس مرآتها صورة انساننا العربي المعذّب الذي القته احقادنا وصراعاتنا مشردا على الارصفة هنا ، شتان بين الصورتين : صورة الاصرار على الحياة التي تضج بها شوارعها رغم المعاناة الاقتصادية ، وهو الاصرار الذي حرك الجماهير لاختيار حكومة انحازت الى مظاهراتهم ومطالبهم ، وصورة التيه العربي الذي يحاصر انساننا من كل اتجاه فلا يجد امامه سوى بوابة اثينا للعبور الى النجاة اذا لم يلتهمه البحر قبل ان يصل الى الشطآن الاوروبية الدافئة. كيف تبدو اثينا التي ما تزال تحافظ على انسانيتها وتتحدى العالم من اجل ان تعيش وتواجه اوجاعها الاقتصادية ، ثم كيف يبدو وجه العربي الذي يتجول في شوارعها التي لا تسأل احدا عن هويته، ثم ماذا عن بلداننا التي اتعبتها اعباء التاريخ والحاضر بما حفلا به من دماء ودموع و “كفر “ بالحياة ، اي حياة ..غدا نكمل ان شاء الله. الدستور