ما احوجنا الى الجهاد من اجل التعمير
من اكثر المفاهيم التي اسيء فهمها واستخدامها الجهاد في سبيل الله ، فقد اختزل - للاسف - في شعبة واحدة تتعلق بالاعداء ، واختلط بمفاهيم اخرى كالقتال والحرب ، فيما الحقيقة ان الجهاد من اجل الحياة مقدم على الجهاد من اجل الموت. كما ان شعب الجهاد ومجالاته التي ذكر فقهاؤنا انها تزيد عن 13 شعبة وتشمل انواع العبادات الظاهرة والباطنة؛ غالبا ما تتصف بالصفة المدنية؛ ما يعني ان جهاد النفس والشيطان والظلم والفساد ، ودفع الذات والغير الى الخير وغيرها مما يتعلق بجهاد الدعوة والبيان والصبر والفقر والتخلف.. الخ ، تندرج في معنى واحد هو الجهاد المدني فيما يبقى جهاد الاعداء بالسلاح - متى بدؤوا العدوان - الشعبة الاخيرة من شعب الجهاد ، كما يرى الدكتور القرضاوي.
ثمة - اذن - فرق كبير بين الجهاد والقتال ، وفي معظم الايات القرآنية التي ذكر فيها الجهاد (34 مرة)ارتبط المفهوم بجهاد النفس والهوى وفساد احوال المجتمع والناس،وفي الاية الكريمة ايضا وجاهدهم به اي بالقرآن بمعنى جهاد الدعوة بالكلمة والبيان ، وفي سورة الفتح التي نزلت بعد صلاح الحديبية ، سمى الله تعالى الصلح فتحا مع انه تم دون قتال ، ولفقهائنا اراء واضحة وحاسمة في اعتبار الجهاد تطوعا وليس فرضا ، وبانه وسيلة وليس غاية ، وبانه شرع لاجل الحرابة وليس من اجل محاربة الكفر ، وبان جهاد الطلب لم يعد ممكنا فيما يبقى جهاد الدفع مشروعا بشروط محددة اساسها ان الاصل في علاقة المسلمين فيما بينهم ومع غيرهم هو السلم والتعاون على الخير ، وان الحرب مجرد استثناء لا تمارس الا اذا اضطر اليها.
لا شك باننا بامس الحاجة الى تحرير مفاهيمنا وقيمنا ومظاهر تديننا مما اعتراها من التباسات وسوء فهم ، واذا كان بعض فقهائنا لم يقصروا في ذلك ، فان ما دخل بلادنا من شرور بسبب غياب الفهم الصحيح لديننا ، او بسبب انتصار التقاليد والمراسيم والمواعظ على المفاهيم والقيم الاصيلة ، ثم ما افرزه ذلك من تدين مغلوط ، يفترض ان تواجه بوعي جديد ، وثقافة جديدة ، واصلاح لبنى عقولنا واذهاننا من خلال مؤسسات ومنابر مؤهلة لهذا الدور ، ودعاة قادرين على تقديم ما يلزم من اجابات عن اسئلة الشباب الحائرة ، ورغباتهم وحماستهم الظاهرة ، واعتقد جازما ، بان سد ابواب الشرور ، سواء كانت على شكل ارهاب اهوج ، او تشدد اعوج ، او انغلاق وجنوح الى العزلة واليأس ، او تدين فاسد ومنقوص ، يمكن ان يكون في متناول اليد ، متى احسنا فهم الدين وتقديمه بالحكمة والحسنى ، من خلال مؤسسات ودعاة ومفكرين ، يثق الناس بهم ، ويطمئنون الى خطابهم ، ويقتنعون بافكارهم ، وهي مهمة سهلة وصعبة معا: سهلة اذا ما تجاوز فقهاؤنا مواقع الخلل في فهم النصوص وانزال الاحكام ، وادركوا من خلال فقه السياسة الشرعية ما يلزم واقعنا من موازنة بين المصالح والمفاسد ، وما يراعي روح الشريعة واهدافها ومقاصدها الكليلة ، وما يفترض ان تبنى عليه الاولويات من ترتيب واختيار.
الجهاد من اجل الحياة ، سواء كان في مكافحة الجهل او الفقر او المخدرات او غيرها من قضايا الناس وهمومهم الملحة ، اولى بكثير من الجهاد لاجل الموت، واذا كان ذلك يحقق نهضة امتنا وقوتها ، ويخيف اعداءها ، ويرفع عنها الظلم الذي لحق بها ، ويعيد اليها كرامتها ، دون ان تحتاج الى القتال بالسلاح الا اذا فرض عليها دفاعا عن نفسها فان ذلك هو قصد الشريعة ذاته من الحث على الجهاد والدعوة اليه ، وهو - ايضا - المعنى الذي يتطابق مع قيم الرحمة والعدالة والسماحة التي جاء بها الاسلام. لا قيم الدم والعنف والدمار التي لا يمكن ان يقرها دين. او يعتقدها انسان.
القتال في سبيل الله اروع ما يمكن للانسان ان يمارسه حين يدافع عن دينه وامته،لكن هل يمكن ان ننجح في مقارعة اعدائنا وننتصر عليهم قبل ان نجاهد انفسنا وفساد مجتمعاتنا ونحررهما مما يعانياه من تخلف وضياع..؟
(الدستور)