افتقدنا الرحمة يا رسول اللـه..
حسين الرواشدة
جو 24 : الاحتفاء بميلاد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ليس مناسبة لاستدراك “نسيان” حصل، فالنبي لا يغيب عن بالنا وذكره لا يفارق اسماعنا وقلوبنا، وليس استذكارا ليوم تمت فيه الولادة، فهذا اليوم كان كغيره من الايام، والله تعالى لم يتحدث عنه في قرآنه الكريم، وانما العبرة في قيمة “الميلاد” ومعناه، وفي الروح الجديدة التي خرجت من ذلك اليوم فأعادت تنظيم البشرية على “صراط” جديد لم تعهده، واعادت صناعة “الانسان” المكرّم ليكون صانعا لأمة وحضارة، ومنفتحا على العالم كله بما يحمله من رسالة هادية تتحرك على الارض لتنشر الهداية والخير في مهاداتها المختلفة. في ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم نحتاج للولادة فيه من جديد، لتجديد معنى “الأسوة” واستلهام النموذج الكريم، لمبادلته الحب الذي علمنا اياه وارشدنا اليه، لفهم سيرته وتحريرها مما اقترفناه بحقها من انحراف في الفهم او التطبيق، لاعادة الاعتبار الى العناوين الكبرى التي شكلت مفاتيح شخصيته: الحرية والرحمة والوحدة واحترام الانسان، اي انسان، واعادة الاعتبار للدين الذي ضحى من اجله : فكان قضية اصحابه الاولى، وللرجال الذين وقفوا معه فكان احب اليهم من انفسهم، وللأمّة التي اسسها فكانت خير امة اخرجت للناس. اذا سألتني عن العنوان الذي نحتاج ان نذهب اليه ونحن نستذكر النبي صلى الله عليه وسلم ونحتفى بذكرى مولده، ساجيبك على الفور : عنوان “ الرحمة”، ذلك ان صورتنا التي تلوثت بدمائنا، واخلاقنا التي تراجعت امام مشاهد القسوة، وافئدتنا التي انفطرت من هول الكوارث والحروب، تدفعنا الى البحث عن “ ملاذ “ آمن نطمئن فيه الى انفسنا، ونستعيد ثقتنا بها، وايماننا بقدرتنا على تجاوز ما نحن فيه، واي ملاذ افضل من “الرحمة” التي جسدها الرسول الكريم في سيرته الشريفة وافتقدناها للاسف في هذا العصر الرديء الذي امتدت رداءته الى ضمارنا المتعبة من الظلم والخوف والاحباط. نعم، اذا اردت ان تعرف الاسلام على حقيقته فاقرأ آيات الرحمة في الكتاب العزيز، وتصفح قصصها في احاديث الرسول عليه السلام، وانت - لا بد - ستجد من يطمئن نفسك ويشحذ همتك ويقوي ايمانك وعزيمتك ويجعلك اكثر اقترابا لخالقك وتصالحا مع نفسك وحبا لدنياك وآخرتك. ورد لفظ الرحمة في اكثر من (400) موقع في القرآن الكريم، اختاره الله تعالى ليكون واحدا من اسمائه الحسنى وصفة من صفاته، ونعت به انبياءه ورسله، وجعله معيارا للعلاقة الطيبة بين عباده المؤمنين، وجزاء للمتقين الصالحين. وفي هذا الاطار، سعى النبي عليه السلام منذ بداية الدعوة الى تأسيس ثقافة الرحمة واشاعة مناخاتها لاقامة المجتمع المتحاب المتكافل، واستطاع في سنوات قليلة ان يعيد تشكيل العقلية العربية التي كانت اكثر ميلا للقسوة، بحكم المكان والظروف والمراسيم، لتصبح اكثر تسامحا ورأفة ورحمة، ولم تتوقف المسألة عند علاقة المسلم بأخيه بل تجاوزتها الى علاقاته مع غيره ممن يختلفون معه في الدين والمعتقد، ومع الكائنات والموجودات ايضا، وفي سيرة الرسول الاكرم نماذج كثيرة من الرحمة مع الكافرين والمخالفين، ومع الحيوانات، وحتى في احلك الظروف حيث يشتد اوار القتال وتنسحب من القلوب مشاعر الرحمة، كان عليه السلام يأمر جنده بألا يطلبوا القتال لذاته، والا يسرفوا فيه، لا بل وان يرحموا اعداءهم من غير المقاتلين ايضا. في مواسم الاقتتال الذي تشهده ساحتنا الاسلامية، واستضعاف الامة من قبل اعدائها، نستحضر مفهوم الرحمة والتراحم، داخل الاسرة والمجتمع والامة الواحدة، لنقول، إن امتنا احوج ما تكون الى هذه القيمة السامية فلا علاقة بين المسلمين ببعضهم او بينهم وبين دولهم يمكن ان تستقيم في ظل القسوة والتنابز والحقد والخوف والانتقام، ولا امل في اي نهضة او حركة تنوير او مشروع تنمية الا اذا عاد المجتمع الى رحمه الاول، حيث الرحمة هي الاساس وحيث التراحم والتعايش ووقف دعوات التكفير والاخراج عن الملة، وسوء الظن هي المفاصل الاساسية للبناء والاخاء. نحتفي -دائما - برسولنا ونستأنس به من وحشتنا ونلوذ الى سيرته لنبدد يأسنا وخوفنا، ونعتز بعظمته وانسانيته ورسالته لنجدد ايماننا، فالرحمة احيانا قبل العدل، اما الذين يحاولون فرض الالتباس بينها وبين ما قرره الاسلام من احكام في اطار العقوبات - وما اقلها - فلا اكثر من ان تقول لهم: وما ارسلناك الا رحمة للعالمين؛ لأن هدف الاسلام - بكل ما جاء به - هو رحمة الناس، “مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ “ صدق الله العظيم.
(الدستور)
(الدستور)