التاريخ يطل برأسه من جديد..!!
حسين الرواشدة
جو 24 : معهم حق هؤلاء الذين “يشمتون” بنا حين يقرأون تاريخنا المثقل “بالحروب” والصراعات والانتصارات على بعضنا البعض او حين ينظرون الى واقعنا وما فعلناه ونفعله بأنفسنا بعد ان انتهينا من ثوراتنا على الاجنبي الذي استعمرنا والانظمة التي استبدت بنا .. وبدأنا حروباً فيما بيننا، تارة باسم الله والدين والمذهب ، وتارة باسم الوطن. معهم حق حين يتفرجون مبتهجين على “دمائنا” وهي تراق بحدود سيوفنا، فأمة تحرق نفسها بنفسها تستحق الشماتة... وامة لا تتعلم من تجاربها وكوارث الامم التي سبقتها لا تستحق حتى الشفقة . فعلا يا خسارة. الان ، يبدو ان التاريخ يطل علينا برأسه من جديد، لا يهم اذا كانت هذه “الطلّة” مجرد استنساخ لاحداث مشابهة، ابتلعناها ولم نتمكن من هضمها، المهم أنها تذكرنا بما حدث وبما يمكن ان يحدث، سواء على صعيد ترسيم خرائطنا الجغرافية او ترسيم خرائط الدين والسياسة والمستقبل ايضا، وبدقة اكثر فإنها تبدو بالنسبة لامتنا وكأنها محاوله لفك حصار الزمن الذي فرض عليها منذ ان “وضعت” على طاولة “ الافتراق المذهبي “ قبل نحو 500عام. يكفي - هنا - ان اشير الى تجربة تركت - وما تزال - بذورا من النزاع بين اتباع المذاهب في عالمنا الاسلامي. بطل هذه التجربة اسماعيل الصفوي الذي لقبه اعوانه بأبي المظفر شاه اسماعيل الهادي الوالي الذي تمكن من حسم الصراع مع احدى الاسر التي تحكم ايران وتوج نفسه حاكما ولم يكن يتجاوز من العمر الرابعة عشرة (م1502). آنذاك كانت ايران سنية المذهب ، لكن اسماعيل فرض المذهب الشيعي كمذهب رسمي للدولة. هنا ، تذكر كتب التاريخ ان الناس استقبلوا هذا القرار بالرفض ، حتى ان علماء الشيعة انفسهم قالوا له: ان ثلاثة ارباع سكان تبريز (وهي العاصمة التي توجهها للدولة) من السنة ، ولا يعرفون شيئا عن المذهب الشيعي.. لكن الرجل لم يصغ اليهم وفرض المذهب بحد السيف. امتدت انظار اسماعيل الى قبائل الأوزبك التي اتخذ زعيمها محمد شيبان من مدينة سمرقند عاصمة له ، وبدأ التراشق المذهبي بين الرجلين ، الى ان تقابلا في معركة فاصلة انتهت الى انتصار اسماعيل واعلان المذهب الشيعي رسميا على أهل تلك المناطق. على الجانب الآخر كانت الدولة العثمانية السنية تنظر بعين الشك والخوف لمحاولات اسماعيل تشييع السكان وقمع (السنة) منهم ، فتحرك السلطان سليم الأول (1514) لمحاربة الصفويين ، والتقيا في صحراء (جالديران) وتمكن السلطان من هزيمة اسماعيل لكن الصراع لم يحسم آنذاك ، إذ بقي الرجلان يتربصان ببعضهما حتى وافتهما المنية. وفي التفاصيل ان السلطان سليم كان يبحث عن ذرائع للحرب ضد الصفويين فلم يجد سوى التغلغل الشيعي داخل دولته سببا لذلك ، فأمر بحصر اعداد الشيعة بصورة سرية ، ثم أمر بقتلهم جميعا في مذبحة رهيبة بلغ عدد ضحاياها (40الفا) ، الهزيمة التي لقيها اسماعيل الصفوي تركت آثارا قاسية في نفسه ، فانصرف الى العزلة ، وارتدى لباسا اسود اللون ووضع على رأسه عمامة ، وكتب على اعلامه السوداء كلمة (القصاص) ، وانصرف الى معاقرة الخمر حتى ادمنها وشغل نفسه بطريقة الانتقام من غريمه سليم الاول. لم تنته الصفوية بوفاة زعيمها اسماعيل ، لكنها بدأت في التراجع (بعد عام1666) حيث أدى عدم التسامح الذي انتهجه الشاه حسين مع السكان من المذهب السني الى تدهور الاقتصاد ودفع الافغان الى تصفية المملكة الصفوية ، واعدام الشاه الى ان انتقلت السلطة الى القاجاريين.. هذه تجربة واحدة ( من تربتنا) للصراع الذي دار بين العثمانيين والصفويين ، وقد كانت البداية لتحول الخلاف المذهبي بين السنة والشيعة الى خلاف مسلح ، ولتدخلات اجنبية متسارعة في عالمنا الاسلامي لم تنته حتى وقتنا المعاصر . خذ ايضا تجربة اخرى من خارج عالمنا العربي والاسلامي ، انها حرب الثلاثين عاما التي امتدت من سنة 1618 وانتهت في 1648م، حيث كانت سلسلة من الحروب والصراعات الدامية التي مزقت أوروبا و امتدت من أراضي أوروبا الوسطى (ألمانيا الحالية)الواقعة آنذاك تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة، حتى وصلت إلى فرنسا والأراضي المنخفضة وشمال إيطاليا وكاتالونيا. بدأت كحرب أهلية بين البروتستانت والرومان الكاثوليك في الولايات الألمانية. ولكن قبل انتهاء الصراع، كانت معظم الدول الأوروبية قد تورَّطت فيها، فتحولت الى صراع سياسي بين فرنسا والنمسا من أجل السيطرة على الدول الأخرى. اشتركت في هذه الحرب جيوش شتى من ألمانيا والسويد وفرنسا وهولندا وإسبانيا والدنمارك، وقتل حوالي ستة ملايين من أصل (21) مليوناً، أي مات حوالي ثلث السكان، معظمهم من الشباب،واحتاجت المانيا الى مئة عام حتى تستعيد عافيتها. المشهد الان في المنطقة يلخص هذه الصورة البائسة التي “استغرقنا” فيها جميعاً دون أن نتنبه الى خطورتها، فما حدث ليس الاّ “بروفة” لوقائع واحداث اشعلت حقول “الهويات” اليابسة والبائسة معاً، وحركت داخل “الذات العربية” والاسلامية المجروحة بفعل تراكمات القهر والظلم والاستبداد طاقات هائلة من الغضب انفجرت في لحظة ما اكتشف فيها الانسان العربي بأنه يجب ان يكون “حرّاً” وأصبح مستعداً لدفع الثمن حتى وان اعتلت المراكب منظمات “تتلطى” بالاسلام وتتاجر باسمه وتذبح بسيوفه، وها هي مخاضاتها الاخيرة تخرج اثقالها ومواليدها، ليس باسم “داعش” فقط،وانما باسم الامة التي توشك ان تقع في فخ الحرب المذهبية ، تماما كما حدث لامتنا قبل 500 عاما وللاوروبيين قبل 400 عام ايضا.
الدستور
الدستور