jo24_banner
jo24_banner

الفيسبوك.. إسهال كتابي وثقافة مبعثرة

د.محمد الحباشنة
جو 24 : دراسة مسحية عشوائية أجريتها على مئتي شخص ذكورا واناثا، و محورها عدد الكتب الورقية المطالعة من قبلهم بالمعدل السنوي قبل وبعد ٢٠١٠، وأختيار هذا التوقيت جاء كوقت تقريبي للانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي وتحديدا الفيسبوك في الاردن. الرقم مريع: فمعدل عدد الكتب المطالعة انخفض إلى حوالي الثلث ما بعد ٢٠١٠بالمقارنة ما قبل هذا التاريخ،بمعنى أن من اعتاد أن يقرأ ثلاثة كتب انخفض إلى واحد وقس على ذلك.

المخيف أن أكثرهم لا يشعر بالتقصير أو الذنب باتجاه ذاته المعرفية. فهو أو هي يؤمنون أن إحلال القراءة المنظمة كان بتصفح الشبكة العنكبوتية العالمية والمثابرة على مطالعة فيض صفحات الفيسبوك أو التوتير .بل أكثر من ذلك فمعظمهم أيضا يعتقد "أنه تجاوز متطلب القراءة السلبية وانتقل إلى حقل الكتابة ،وهو فعل أكثر نشاطا وإيجابية وفاعلية من الاختباء وراء دفتي كتاب أصم" على لسانهم.

لا استغرب ابدا هذه الاستنتاجات، فاواسط الناس (ومعظمنا كذلك) يسعون إلى تعزيز خارجي يساهم في تماسكهم النفسي ويشعرهم بالإنجاز والأهلية والاهمية حتى لو كانت كلها(وهمية ) ، هذا طبعا لا يعمم على المثقف الحقيقي الذي لديه الف سبب داخلي للثقة والثبات والقيمة بغض النظر عن وجود معجبين، مع أهمية هذا العامل الذي يعتبر تكميليا لا ضروريا.وبعيدا عن التنظير والمغالاة العلمية فإن قراءة كتابين في صمت القارئ العادي ورعايته المملة لا يمكن مقارنته مع كتابة ونشر عشرين فقرة أو جملة على الملأ ،فيما يحمله الأخير من تصفيق وإعجاب وتفاعل و مشاركة .الإنسان الاعتيادي لديه حاجة ماسة إلى( اعتراف الآخرين باهميته وقدراته ووجوده).هنا لا مقاربة ابدا بين اغرائية الوقار وإغرائية الانتشار.

ولكن يجب أن نعترف اننا بتنا نرسل أكثر مما نستقبل، نكتب أكثر مما نقرأ، ونستنج أكثر كثيرا مما نستخرج. ما زاد الطين بلة أن موضة(الإسهال الكتابي) والتي غالبا ما تكون موادها خليطا غير متجانس من ارباع المعلومات واعشار الاخبار وانصاف المنطق ،جاءت للأسف في مرحلة عربية حرجة لا تحتمل معها إلا نظريات عميقة مؤسسة وراسخة البنيان والدليل.لذلك فإن هواية الكتابة غير الاحترافية على الطالع والنازل هي كمن يحاول تجربة صوته الغنائي في باخرة في لجة العاصفة، والتي لا تحتمل في هذا المقام اي هامش تشويش أو تغبيش ولا تحتاج ابدا إلا رأي خبراء الملاحة والجغرافيا والقياس.

النثر المؤطر العميق هو متطلب غير قابل للمساومة من أجل مجتمع مدني فاعل قادر على التقدم والتغيير (والثبات والثورة) معا. وربما تأخر نثرنا السليم المتكئ على المخزون المعرفي المترابط والمواكب بالمقارنة مع الغرب مثلا بعدة عقود ، بداعي الطمر العثماني والاستعمار الغربي والاستبداد الداخلي بعد ذلك.وما كان ينقصنا إلا ثقافة العولمة السريعة والتي استسهلنا منها الأضعف والاسرع لينتهي نثرنا المنتظر كالكلمات المتقاطعة. وموروث التنوير الموعود لم يتمخض عن أدبيات تاريخية تجسر الهوة والقطيعة مع العالم ،بل إن بواقي المفكرين العرب المعاصرين تركوا على هامش المشهد وخاصة ذلك الإلكتروني. وبدأ السواد يكتب ويقرأ مرارا ما يكتب أو ما يكتب الأقران أو يراجع التغذية الراجعة لمادته بفؤاد طفل هاجسه الاطراء . وهي حالة من اللغو الذي اعتدنا عليه في المجالس والحارات مع فرق خطير: انه هنامكتوب وموثق. والقاعدة الأصيلة العامةتفيد عادة أن كل مكتوب ثمين .من منا الآن يستطيع الفرز بين الهجين والثمين أو بين الغث والسمين باعتبار أن الكل دون استثناء يكتب ويكتب ويكتب.هذا لا ينفي حقيقة واضحة وهي أن الصفحات الإلكترونية فتحت المجال لعقول واقلام مميزة ما كان لها أن تبزغ ضمن المساحات الإعلامية التقليدية،ولكنهم هامش قليل بديع مع قاعدة عريضة متواضعة.

ثقافة الفيسبوك ثقافة مبعثرة، وكما استطعنا أن نقع بسهولة في ثقافة الاستهلاك المعيشي ونحن حقيقة فقراء ،ننزلق دون بعض عظة في الاستهلاك المعرفي ونحن دون مواربة جهلاء.تلك الدول الفاشلة التي لا تحسب ميزانيتها وتلك الأسر التي تسقط على محراب معيشة الثراء الكاذب: هي مقدمات ثابتة نحو استهلاك معرفي على فتات العالم ونحن على خط الفقر على مستوى الثقافة الصلبة. من يفضل أقتناء الهاتف الذكي على حساب إصلاح بيته الذي سوف يغرق شتاء، وهذه الدولة التي تحرص على رفاه خدمات البوليفارد مقابل الاف الشباب العاطلين عن العمل، لا يستغرب في ذات الاجواء ابدا ان نفضل صفحة نصف مثقف أو نصف جاهل (ولا فرق بينهم) على كتاب استاذ في الفلسفة حرفتة الاولى التفكير والقراءة والكتابة. والكل يتحرك تحت عنوان سرابي مغر مغاده: (الارتفاع دون قاعدة).

وبالقدر الذي نستسهل فيه الهامبرغر كوجبة سريعة قليلة الفائدة كثيرة الدهون، نستسهل بذات الطريقة المعلومة والخبر السريعين مع ما يحملان من فائدة دنيا وشوائب قصوى :الأسلوب الأمريكي الرأسمالي في البطون والعقول ولا فخر.

الثورات العربية كانت دون قيادات كادرية فكرية فسقطت ، كانت دون نظرية أو بوصلة فاجهضت ،ولا يترحم حتى الثوار عليها. أما آن لنا الان ان نقرع الجرس وننفخ في الصور محذرين من ثقافة فسيسفائية مبعثرة ستساهم في كل شئ إلا صحوة عقولنا واستعادة الضمير العلمي والموضوعي والأخلاقي (المؤطر والمنهجي) الغائب.

ما هكذا يورد الفيسبوك يا عرب..
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير