تأميم «سوق» التنبؤات الجوية..!
حسين الرواشدة
جو 24 : بدل ان تذهب الحكومة الى الاعتراف بمشكلة “رداءة” التنبؤات الجوية ، وتعمل على توفير ما يلزم من اجهزة حديثة وكفاءات بشرية لمعالجتها ، وتحسين اداء الدائرة الرسمية المعنية بها ، قفزت فجأة لاصدار مشروع قانون يعاقب كل من يدخل الى “ سوق التنبؤات الجوية “ بدون ترخيص رسمي ، واذا علمنا ان هذا السوق ما زال محدودا جدا ، ولا يوجد فيه الا مؤسسة خاصة واحدة يديرها احد الشباب الطموحين ، فان مشروع القانون الذي تم اعداده واصداره على عجل تقصد “ تأميم “ المجال الجوي ، وتلزيم عطاء التنبؤ باحوال الطقس بجهة واحدة هي دائرة الارصاد التابعة للحكومة.
لن نعدم - بالطبع - من سيحاجج بوجاهة هذا الاجراء الحكومي، سواء بدعوى ضبط المعلومات التي تتعلق بالطقس وتحديد المسؤول عنها والزامه بالترخيص الذي يحدد الشروط المطلوبة منه، او بدعوى مواجهة الآثار المترتبة على تضارب التنبؤات الجوية ، من حيث الكلفة الاقتصادية والاجتماعية، او بحاجة الدولة الى مرجعية واحدة فقط تتولى هذه المهمة وتلتزم بما يصدر اليها من توجيهات .
لكن مقابل ذلك، تبدو هذه الحجج مجرد ذرائع من عصور قديمة لا علاقة لها بالواقع ، فمن قال ان التنبؤات الجوية يجب ان تقتصر على الحكومة فقط ، او انها جزء من اسرار الدولة ، ومن قال ان اغلاق سوق التنافس في هذا المجال سيعيد العافية لدائرة الارصاد ويحسّن اداءها ويقنع الناس بنشراتها ، ومن قال ايضا ان احتكار هذا المجال سيمنع الجمهور في زمن ثورة الاتصالات والمعلومات من استقاء معلوماتهم عن الطقس من جهات اخرى خارج الحدود ، ما دام ان مصداقيتها لديهم افضل من مصداقية ارصادنا المحلية.
المشكلة هنا ليست في استصدار تشريع عاجل ينظم مجال التنبؤات الجوية ، والتنبؤات بالمناسبة مجرد اجتهادات بشرية قابلة للخطأ والصواب ، واهم ما تحتاجه عاملان : تقني حديث وبشري كفؤ، وهما للاسف لا يتوافران لدينا بالشكل المطلوب، لا في دائرة الارصاد ولا في المؤسسة الاخرى، ولكن المشكلة في مبدأ “التأميم” نفسه، حيث يبدو مستغربا في عصر نتحدث فيه بطلاقة وحماس عن “ الخصخصة” وتشجيع القطاع الخاص ودعم ابداعات الشباب ان نتوجه لاعادة عقارب الساعة الى زمن الاحتكار الرسمي لكل شيء، حتى ما يتعلق بالعلم والبحث والتنبؤ بالمناخ والطقس ، كما ان المشكلة ايضا في “ تصميم “ التشريع على اساس العقاب فقط، فقد اشتمل مشروع القانون الذي اقرته الحكومة على “حبس” كل من يتجرأ على الدخول الى هذا المجال دون ترخيص لمدة عام ( تصور!) اوفرض غرامة عليه بمبلغ قدره 20 الف دينار ، فيما كان يمكن ان يتضمن المشروع عقوبات اقل حدة ، او ان يكتفي القانون بتحديد الشروط والمواصفات المطلوبة لمن يتولى هذه المهمة ثم يترك للنظام تحديد التفاصيل الاخرى.
كان يمكن ايضا ان نذهب الى عنوان آخر اهم وهو انشاء مركز وطني للبحوث والتنبؤات الجوية ، بحيث يكون مؤسسة مستقلة تستوعب الكفاءات العلمية الوطنية ، ونسخّر لها ما يلزم من امكانيات للقيام بهذه المهمة بأعلى درجات الحرفية والمصداقية ، وبذلك نخرج من سوق المضاربات على الطقس ونضمن اصدار نشرات جوية تحظى بثقة الناس ، وبعدها لا ضير اذا ظل سوق التنافس مفتوحا ، والحكم بالتالي للناس ، فهم الاقدر على الفرز بين الغث والسمين.
بقي ان اشير الى ثلاث ملاحظات ، الاولى هي ان لدينا مضاربات في اسواق كثيرة ومتعددة ، خذ مثلا ما جرى في سوق البورصات وسوق البيوعات المؤجلة ( كما حدث في البتراء) وفي سوق الشعوذة والتنجيم وفي سوق” التكفير” باسم الدين وباسم السياسة ايضا، وهذه الاخيرة من اخطر المضاربات ، والسؤال هو اين اولوياتنا لضبط هذه الاسواق ، ثم هل اصدار التشريع يكفي لحل المشكلة ، ولماذا استعجلنا في معالجة مشكلة “الداخلين” على خط الطقس ولم ننتبه للداخلين على خطوط اخرى اهم واخطر..؟ الملاحظة الثانية وهي ان تقديم الحكومة لمشروع القانون لا يعني اقراره ، فامام النواب فرصة لرد هذا المشروع او اجراء ما يلزم من تعديلات عليه ، هذا اذا احسنا النية بقدرة المجلس على ذلك، اما الملاحظة الاخيرة فهي ان منطق تعاملنا مع ما يواجهنا من قضايا ومشكلات يجب ان يكون منسجما ومعبّرا عن قيم الدولة القائمة على الحكمة والاستيعاب وتجنب الاقصاء والثأرية، واعتقد ان تعاملنا مع هذه القضية لا ينسجم تماما مع هذه القيم ، واخشى ما اخشاة ان تتكرر “بروفة الارصاد” لتكون نموذجا مقبولا ومرحبا به ايضا في مجالات اخرى ..وهذا اخطر ما يمكن ان يحدث..وفهمكم كفاية.
الدستور
لن نعدم - بالطبع - من سيحاجج بوجاهة هذا الاجراء الحكومي، سواء بدعوى ضبط المعلومات التي تتعلق بالطقس وتحديد المسؤول عنها والزامه بالترخيص الذي يحدد الشروط المطلوبة منه، او بدعوى مواجهة الآثار المترتبة على تضارب التنبؤات الجوية ، من حيث الكلفة الاقتصادية والاجتماعية، او بحاجة الدولة الى مرجعية واحدة فقط تتولى هذه المهمة وتلتزم بما يصدر اليها من توجيهات .
لكن مقابل ذلك، تبدو هذه الحجج مجرد ذرائع من عصور قديمة لا علاقة لها بالواقع ، فمن قال ان التنبؤات الجوية يجب ان تقتصر على الحكومة فقط ، او انها جزء من اسرار الدولة ، ومن قال ان اغلاق سوق التنافس في هذا المجال سيعيد العافية لدائرة الارصاد ويحسّن اداءها ويقنع الناس بنشراتها ، ومن قال ايضا ان احتكار هذا المجال سيمنع الجمهور في زمن ثورة الاتصالات والمعلومات من استقاء معلوماتهم عن الطقس من جهات اخرى خارج الحدود ، ما دام ان مصداقيتها لديهم افضل من مصداقية ارصادنا المحلية.
المشكلة هنا ليست في استصدار تشريع عاجل ينظم مجال التنبؤات الجوية ، والتنبؤات بالمناسبة مجرد اجتهادات بشرية قابلة للخطأ والصواب ، واهم ما تحتاجه عاملان : تقني حديث وبشري كفؤ، وهما للاسف لا يتوافران لدينا بالشكل المطلوب، لا في دائرة الارصاد ولا في المؤسسة الاخرى، ولكن المشكلة في مبدأ “التأميم” نفسه، حيث يبدو مستغربا في عصر نتحدث فيه بطلاقة وحماس عن “ الخصخصة” وتشجيع القطاع الخاص ودعم ابداعات الشباب ان نتوجه لاعادة عقارب الساعة الى زمن الاحتكار الرسمي لكل شيء، حتى ما يتعلق بالعلم والبحث والتنبؤ بالمناخ والطقس ، كما ان المشكلة ايضا في “ تصميم “ التشريع على اساس العقاب فقط، فقد اشتمل مشروع القانون الذي اقرته الحكومة على “حبس” كل من يتجرأ على الدخول الى هذا المجال دون ترخيص لمدة عام ( تصور!) اوفرض غرامة عليه بمبلغ قدره 20 الف دينار ، فيما كان يمكن ان يتضمن المشروع عقوبات اقل حدة ، او ان يكتفي القانون بتحديد الشروط والمواصفات المطلوبة لمن يتولى هذه المهمة ثم يترك للنظام تحديد التفاصيل الاخرى.
كان يمكن ايضا ان نذهب الى عنوان آخر اهم وهو انشاء مركز وطني للبحوث والتنبؤات الجوية ، بحيث يكون مؤسسة مستقلة تستوعب الكفاءات العلمية الوطنية ، ونسخّر لها ما يلزم من امكانيات للقيام بهذه المهمة بأعلى درجات الحرفية والمصداقية ، وبذلك نخرج من سوق المضاربات على الطقس ونضمن اصدار نشرات جوية تحظى بثقة الناس ، وبعدها لا ضير اذا ظل سوق التنافس مفتوحا ، والحكم بالتالي للناس ، فهم الاقدر على الفرز بين الغث والسمين.
بقي ان اشير الى ثلاث ملاحظات ، الاولى هي ان لدينا مضاربات في اسواق كثيرة ومتعددة ، خذ مثلا ما جرى في سوق البورصات وسوق البيوعات المؤجلة ( كما حدث في البتراء) وفي سوق الشعوذة والتنجيم وفي سوق” التكفير” باسم الدين وباسم السياسة ايضا، وهذه الاخيرة من اخطر المضاربات ، والسؤال هو اين اولوياتنا لضبط هذه الاسواق ، ثم هل اصدار التشريع يكفي لحل المشكلة ، ولماذا استعجلنا في معالجة مشكلة “الداخلين” على خط الطقس ولم ننتبه للداخلين على خطوط اخرى اهم واخطر..؟ الملاحظة الثانية وهي ان تقديم الحكومة لمشروع القانون لا يعني اقراره ، فامام النواب فرصة لرد هذا المشروع او اجراء ما يلزم من تعديلات عليه ، هذا اذا احسنا النية بقدرة المجلس على ذلك، اما الملاحظة الاخيرة فهي ان منطق تعاملنا مع ما يواجهنا من قضايا ومشكلات يجب ان يكون منسجما ومعبّرا عن قيم الدولة القائمة على الحكمة والاستيعاب وتجنب الاقصاء والثأرية، واعتقد ان تعاملنا مع هذه القضية لا ينسجم تماما مع هذه القيم ، واخشى ما اخشاة ان تتكرر “بروفة الارصاد” لتكون نموذجا مقبولا ومرحبا به ايضا في مجالات اخرى ..وهذا اخطر ما يمكن ان يحدث..وفهمكم كفاية.
الدستور