الانسحاب الروسي : هل سيعيدنا للوراء..؟!
حسين الرواشدة
جو 24 : ما لا يريد ان يفهمه الكثيرون (خاصة الانظمة التي بطشت بشعوبها والمصفقون لها ) هو انه لا يتحرك احد في العالم ، وتحديدا الدول الكبرى ، الا في دائرة مصالحه ، ومصالحه فقط، وبالتالي فان الرهان على الآخر ، مهما توافقت المصالح ، يظل محدودا ومشروطا ومؤقتا ، وقابلا للتغيير في اية لحظة. لم تتدخل روسيا في سوريا من اجل عيون الاسد ، ولا انسحبت ايضا لتقوية موقف المعارضة في جنيف ، ما فعلته في الحالتين يمكن فهمه في سياق واحد لا غير وهو : طبيعة المهمة التي "حاربت” من اجلها ، وفيما اذا كانت حققت مصالحها ام لا..؟ حين ندقق في طبيعة المهمة نجد انها جاءت في اطارين: التحولات الدولية التي انهت حقبة انفراد القطب الاوحد ، والصراع على سوريا وعلى المنطقة عموما بعد ما يسمى بالربيع العربي، وبالتالي لا يمكن لروسيا التي استيقظت فيها "نزعة” الامبراطورية على يد بوتين ان تبقى تتفرج او ان تكون محايدة ، واستجابة لهذه الفرصة التي استغلها بوتين فان مهمة التدخل العسكري في سوريا كانت مصممة تماما لتحقيق انجاز سياسي ، وهو باختصار تأمين موطئ قدم لموسكو يضمن لها اقتسام كعكة النفوذ في المنطقة ، وهذا لا يمكن ان يتم الا من خلال مسارين " احدهما انجاز عسكري على الارض يعيد التوازن للقوى المتصارعة ويسمح بفرض الشروط على كافة الاطراف لانضاج اي تسوية ، والآخر اتمام صفقة توافقات مع القوى الدولية ( امريكا تحديدا ) يضمن لموسكو حصتها ، بحيث لا تخرج من المولد بلا حمص ، ولا تتورط في المستنقع بلا نتيجة، والتوافقات هنا لا تتعلق فقط بسوريا والمنطقة ، بل تتجاوزهما الى ملفات اخرى ما تزال عالقة بين القطبين الكبيرين( امريكا وروسيا) سواء في اوكرانيا او ملف النفط والغاز او الحصار والاقتصاد..الخ. روسيا ، اذا ، انجزت المهمة ، بما يحقق مصالحها او جزءا منها ، ثم تركت للاخرين المنشغلين بالمفاجأة حرية الاختصام والجدل ومحاولة فك اللغز ، البعض فهم ما حدث وكأنه انقلاب على الاسد ، او تعارض للمصالح مع ايران ، او محاولة للهروب بأقل ما يمكن من خسائر وافضل ما يمكن من مصالح، البعض الآخر اعتقد ان الانسحاب حركة تكتيكية وان روسيا لم تغادر سوريا ، وبالتالي فان العملية مجرد ضغط سياسي لتمرير جنيف ، فيما رأى آخرون ان السعودية دخلت "بالنفط” على الخط الروسي ، وقدمت لها مكافأة "نهاية المهمة " لقطع الطريق امام خطة”ب” التي لوّحوا بها امام موسكو وحلفائها. اسوأ الاحتمالات التي يمكن التفكير بها هي ان يعيد الانسحاب الروسي الحرب في سوريا الى نقطة الصفر، عندئذ سيمهد الطريق لحرب اهلية طويلة تكون نتيجتها الوحيدة تقسيم سوريا تحت لافتة "الفيدرالية” ، وهو مقترح روسي ومطلب اسرائيلي بامتياز. سقط الاسد ، او لم يسقط ، فسوريا التي نعرفها انتهت ، ونحن امام سوريا جديدة ، بمواصفات تحقق المصالح الدولية اولا ، ومصلحة ايران واسرائيل ثانيا ،هل هذا ما ادركته وارادته روسيا ..؟ ربما ، لكن مهما يكن ، فان روسيا بعد مفاجأتي التدخل والانسحاب اصبحت مطمئنة تماما انها حجزت مقعدها وستكون "شريكا” في ادارة هذه المنطقة ، كما ان مهمتها ستتعمق مستقبلا في هذه الادارة”المشتركة” ، وبالتالي فانسحابها كان بمثابة تقديم اوراق اعتماد وصداقة لكل الاطراف المنغمسة في الصراع بالمنطقة: امريكا والغرب والسعودية وايران وتركيا والنظام الجديد الذي تقترحه كبديل للاسد ، انها خرجت ولن تخسر احدا ، وبالتالي فان مهمتها انجزت تماما ، لانها في الاصل لا ترغب ان تكون طرفا مباشرا في صراع طويل ، ولا (ابا ) شرعيا للرئيس السوري ،ولا خصما لطهران التي استلمت مفتاح ادارة المنطقة بقرار دولي. يبقى ما يعنينا ، وهو : كيف سيؤثر الانسحاب الروسي الذي قلب المعادلات القائمة في سوريا (وربما في المنطقة) على بلدنا ..؟ حتى الان لا توجد اية اجابة رسمية ، فقد اكتفت المصادر التي سمعنا تصريحاتها "بالتمنيات” الممزوجة بالحيرة ، لكن لا شك ان الاردن سيجد نفسه امام تحولات جديدة ومتسارعة، لا سيما على جبهة سوريا الجنوبية التي تشكل تهديدا مباشرا لامننا الداخلي ، وسيتوقف مدى قدرتنا على مواجهة هذا الخطر على عاملين اثنين ، الاول اعادة الانفتاح على التنظيمات المسلحة المعتدلة ( والممولين لها) التي ما تزال تسيطر على جزء من هذه المنطقة، واستعادة ثقتها بالحياد الايجابي الذي انتهجناه في السنوات الماضية ، والثاني اعادة الفاعلية للتحالف الدولي ضد الارهاب الذي تعرض في الشهور الماضية للتراجع ، فالخطر الذي تشكله داعش على حدودنا في حالة قدرتها على ملء الفراغ الذي ستتركه قوات النظام والفصائل الاخرى المعارضة (خاصة بعد الانسحاب الروسي ) سيكون داهما ، وبالتالي فان المقاربات الاردنية السابقة تجاه الصراع في سوريا ستكون بحاجة للمراجعة ، وهذا يقتضي ان نتكيف داخليا مع اية استحقاقات متوقعة ، وان "نصمم” تحالفاتنا الخارجية معها ايضا ، فنحن على الارجح سنكون امام صراع طويل ، او حرب استنزاف لها ما بعدها على المنطقة برمتها.
الدستور