كشفتنا رمال السودان هذه المرة..!!
حسين الرواشدة
جو 24 :
قبل ان نذهب الى ادانة ما فعله السماسرة الذين تاجروا بطموحات ابنائنا في الحصول على شهادة التوجيهي من السودان ، او الى القاء اللوم على الاباء الذين خضعوا لابتزاز هؤلاء ، او الى تحميل الطلبة الذين تشاجروا هناك على الاسئلة المسربة المسؤولية الكاملة ، قبل ان نفعل ذلك كان لا بد ان نسال : لماذا اضطر الطلبة الى الهروب من امتحاننا الى امتحانات اخرى خارج البلاد ، هل المشكلة فيهم ام في الامتحان الذي فرضناه عليهم ، في رغبتهم بالحصول على علامات عالية بالمال وباقل جهد ممكن يسمح لهم بالتنافس على المقاعد الجامعية ام في رغبتنا "بتعقيد” الاجراءات ، سواء تعلقت بالتوجيهي او بالقبول بالجامعات..؟
قصة طلبتنا الذين اعتقلتهم السلطات السودانية فتحت امامنا مثل هذا السؤال ، لكن القصة( الفضيحة ان شئت كما يصفها الصديق محمد ابو رمان ) تبدو اعمق من ذلك ، فخلال العامين المنصرفين هرب آلاف من ابنائنا الصغار الى الخارج ، بعضهم للهند واوكرانيا وتركيا وبعضهم لدول الخليج ومصر والسودان ..الخ، للحصول على شهادة التوجيهي ، منذ ذلك الوقت التزمت وزارة التربية والتعليم بالصمت ، ولم نسمع من اي مسؤول تعليقا ولا تحذيرا مما جرى ، الى ان فاجأتنا قصة الطالبة الاردنية التي توفيت قبل شهور في سلطنة عمان ، وتبين انها سافرت مع والدها لدراسة التوجيهي ، ثم جاءت قصة الطلبة في السودان ، بعدها افاقت وزارة التربية على ما يبدو من نومها لتؤكد انها لن تقبل الاعتراف بالشهادات السودانية ، هكذا بمنتهى "الحزم " والسهولة ، وكأن المشكلة ليست في الاسباب التي دفعت هؤلاء الطلبة الى الهجرة من اجل التخلص من عقدة التوجيهي الاردني وانما المشكلة فقط في الملابسات التي احاطت باجراء الامتحان هناك ( الوزارة على العموم عودتنا انها تحاكم النتائج ولا تلتفت للاسباب).
حين ندقق في مسألة هروب ابنائنا للحصول على شهادة التوجيهي من الخارج نجد ان ذلك تزامن مع الانقلاب الذي احدثته الوزارة على الامتحان ، وقد كان صادما بالفعل ، لا على صعيد ضبط ظاهرة الغش التي لا يمكن لاحد ان يعارضها وانما على صعيد تغيير بنية الاسئلة ومعاييرها ثم محاكمة الطلبة في آخر سنة يتقرر فيها مصيرهم على اخطاء لم يكن لهم يد فيها ، فعلى امتداد 11 عاما يخضع الطلبة - خاصة في المدارس الحكومية- لمناهج واساليب تدريسية تقوم على الحفظ والتلقين ، كما انهم يعانون من "فقر " مدارسهم لابسط مقومات التعليم الحديث ، ثم قفزت الوزارة - هكذا وبلا مقدمات لاصلاح التعليم من اساسه -لتفاجئهم ( اسوة بغيرهم من الطلبة الذين يتلقون تعليم بمدارس ذات امكانيات عالية) بامتحان لا يتناسب مع امكانياتهم وظروفهم المتاحة ، وحين صدمتنا نتائحج التوجيهي وخاصة في المدارس التي لم ينجح فيها احد ، وفي انخفاض معلات الطلبة في الارياف والبوادي ، وادرك الطلبة ان حظوظهم في الحصول على مقاعد جامعية قد تراجعت لا سيما وان قوائم القبول الموحد ما زالت تخضع لمنطق "الكوتات " بانواعها ، كما تخضع فرص التعليم الموازي لمنطق "من يدفع اكثر " ،عندئد اضطر الطلبة الى البحث عن فرصة للحصول على شهادات سهلة ومضمونة، وحدث ما حدث.
حين اغلقنا الابواب المشروعة امام طلبتنا الذين تعسفنا معهم في الامتحان ، وحملناهم مسؤولية اخطائنا واخفاقاتنا ، وتعاملنا معهم على "مسطرة” المدارس التي يدرس فيها ابناء الاثرياء، قفزوا من الشبابيك وهربوا الى الخارج ، وكان يمكن عندئذ ان نناقش ما حدث على طاولة حوار عميق ومسؤول لكي نفهم ما جرى ونتوافق على تقديم ما يلزم من حلول له ، لكننا للاسف آثرنا الصمت والتأجيل واكتفينا بالتصفيق للقرارات التي اتخذناها على اعتبارات انها انجازات مقدسة ، تماما كما حصل حين صدمتنا حالات الانتحار المتصاعدة في مجتمعنا ، وقتها ذهبنا الى تحريم الانتحار دون ان نسأل : لماذا ينتحر هولاء ، وتماما كما نتعامل مع الازمات التي تتفجر مرارا وتكرارا في وجوهنا ، فنفزع الى ادانة النتائج ثم نعفي انفسنا من مهمة الاجابة على سؤال "لماذا” ونسجل القضية برسم المجهول.
الان نكتشف ان المسؤولين في بلادنا لا يتحركون الا اذا " وقعت الواقعة” وان القرارات التي يصدرونها لا علاقة لها بردود المجتمع ولا بمشكلاته، وان مثل هذه القطيعة بين المسؤول والناس هي التي ولّدت فجوة تراجع الثقة ، وربما انعدامها ، بين الطرفين ، كما انها دفعت الناس الى اخذ حقوقهم "بايديهم” وحل مشكلاتهم على طريقتهم الخاصة ، حتى لو كانت هذه الحلول غير مشروعة ، والمشكلة هنا اننا حين نكتشف اخطاءنا ، لا نعترف بها وانما نحاول ان نغطيها ونتحايل لاقناع الناس بانها صحيحة و بانهم مخطئون دائما ، فيما الحقيقة اننا نضع رؤوسنا في الرمال ، ومن حسن حضنا ان رمال السودان كشفتنا هذه المرة.