التطـرف فـي دراســة مسـلوقـة ..!!
حين قرأت ملخص التقرير الذي اطلقه مدير صندوق البحث العلمي حول " الشباب في مواجهة الفكر المتطرف” ، خطر في بالي سؤال واحد،وهو: من هؤلاء الذين تتحدث عنهم الدراسة؟ هل هم "عينة” حقيقية اخضعت للبحث والدراسة، وجرى معاينتها وتشخيصها، وثم تحديد خرائطها الجغرافية والاجتماعية والتعليمية والاقتصادية، ام انهم مجرد "اشباح” واشخاص مفترضيين، لانعرفهم، وانما نتخيلهم فقط.؟
من المؤكد، كما خلصت الدراسة في التشخيص ووضعت مقتراحات للمعالجة، وكما اطلعت من خلال اصدقاء شاركوا في اعدادها، ان اللجان التي قامت بهذه المهمة، مع بالغ الاحترام لجهودها، لم تحدد بصورة عملية "مجتمع الدراسة” الذي كان يفترض ان يكون ( العالم الخاص للشباب المتطرفين ) ولم تبذل ما يلزم من جهد لمعرفة هذا المجتمع وفحص تربته واجراء لقاءات مع المعنيين فيه،كما انها لم تضع فرضيات المشكلة لاثباتها او نفيها ، وانما اكتفت –فقط- بطرح موضوع "التطرف” على الطاولة، ثم بدأت بمناقشة العوامل والاسباب التي افترضت انها تغذيه، وفيما قامت احد اللجان بإجراء استطلاع عام حول الاعلام ودوره في مواجهة التطرف شملت "عينتة” المجتمع كله ممن تتراوح اعمارهم ما بين 15-53سنة( لاحظ الفئة العمرية المختارة وعلاقتها بالتطرف..؟)، لا مجتمع المتهمين او المعنيين في هذه القضية، بما يعني اننا امام دراسة نظرية محضة، لا علاقة لها بالواقع، وهي لا تختلف عن اي بحث حول التطرف، في اي بلد في العالم،وكان يمكن ان نستنسخ من "العم جوجل” ما كتب عن الموضوع، دون ان يكلفنا ذلك فلساً واحداً.
عملياً، لم تقدم لنا الدراسة اي جديد ، فنحن بعدها كما كنا قبلها، لا نعرف من هو "الاردني المتطرف”، ولا اين تتوزع خرائط التطرف في بلادنا، ولا كم عدد المتطرفين، سواء ممن يعيشون بيننا او ممن جذبتهم التنظيمات اليها، ولا نعرف ما هي مواصفاتهم الاجتماعية او الطبقات الاقتصادية التي ينتسبون اليها ولا مستوياتهم التعليمية و المدارس الدينية التي تخرجوا منها، ولا اسماء "مشايخهم ، ولا الدوافع التي اضطرتهم الى سلوك هذا الطريق...وبالتالي فإن "مجتمع” التطرف ما زال مغلقاً امامنا ولم يستطع الباحثون المكلفون باعداد هذه الدراسة من الوصول اليه، او التعرف على اوضاعه، او مقابلة الاشخاص الذين يعيشون فيه والاخرون الذين يشكلون "مرجعيات” لهم.
نحن اذا، امام دراسة "مسلوقة” (آسف على استخدام هذا الوصف) لها علاقة بفضاء التطرف العام لكن لا علاقة لها بواقع التطرف الذي يعاني منه مجتمعنا، كما ان الاسئلة التي استندت اليها مجرد اسئلة افتراضية، واحياناً خاطئة. والتوصيات التي انتهت اليها، ليست اكثر من احجيات، وبدلا ان تقدم لنا افتراضات وحقائق، فانها صدمتنا بمعلومات ( انطباعات:بوصف ادق )غير علمية، سواء حين تضع الجهل في مقدمة اسباب الجنوح الى التطرف، او حين تقترح الحلول النظرية دون التطرق لاية برامج عملية محددة في سياق تجربتنا المحلية او تجارب الاخرين في هذا المجال، او حتى حين تناقش الاسباب الاقتصادية والاجتماعية والاعلامية التي ساهمت "بتلويث” المجال العام بهذا المرض الخطير.
حين ندقق في التفاصيل نكتشف ان الدراسة تقرر سلفا بلا ادلة ولا احصائيات دقيقة ان مجتمعنا يعاني من التطرف( هكذا بشكل مطلق؟) ، وان هذا التطرف ناتج عن عدم حضوردور الدولة ومؤسساتها المعنية كما يجب ـ ثم تقرر ان الدافع الاول لهذا التطرف هو "الجهل” دون ان تضبط هذا المصطلح او تشرحه ، علما ان معظم الشباب الذين التحقوا بالتنظيمات المتطرفة من المتعلمين ، وبعضهم ممن يحملون شهادات علمية معتبرة، كما تضعنا الدراسة امام "واقعنا الديني” الذي تسبب في ولادة التطرف وتغذيته دون ان تشرح هذا الواقع والخطاب الديني السائد فيه ، ومثلما تغيب تفاصيل الواقع الديني تختفي من الدراسة ايضا تفاصيل الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي ..وهكذا ، وبالتالي فاننا امام عناوين غامضة لا يمكن ان نضعها على طاولة مسؤول ونطلب منه ان يتبناها من خلال قرارات او اجراءات لمواجهة التطرف الذي يفترض ان الدراسة جاءت لتحدد اسبابه بدقة ، والبرامج اللازمة لمحاصرته بدون مواربة.
كان يمكن ان نتجنب الخطأ الذي وقعت فيه الحكومة حين اعدت بصمت استراتيجية مواجهة التطرف، ثم اكتشفت انها كانت مجرد خطة لتوزيع الادوار على مؤسساتها ولا تستند الى اية دراسة علمية جادة ، لكننا للاسف وقعنا في الخطأ نفسه ، ولو تم تكليف احد مراكز الابحاث المعتبرة في بلدنا ، كما فعلنا مثلا قبل سنوات في "ازمة معان” لتجاوزنا مثل هذه النهايات غير الموفقة ، ومع ذلك فان امامنا فرصة لتكليف عدد من المختصين والخبراء في هذا المجال لاعداد دراسة اخرى تحت اشراف اي مؤسسة بحثية مستقلة ، على ان تكون مصممة بدقة لمعرفة ظاهرة التطرف في بلدنا من خلال اختراق جدران "مجتمعه” الخاص ، وبعدها يمكن ان نبحث هذه الظاهرة في المجال العام، وخاصة علاقته بالشباب الذي هم اكثر الفئات المستهدفة به.