قصة ( السفير ) على الطريق الصحراوي..!!
من يتحمل مسؤولية عشرات الضحايا الذين سقطوا على "الطريق الصحراوي”..؟
لا احد ، بالطبع، فالمسؤولون في بلادنا لا يمتلكون الشجاعة( ولا هم مضطرون لها بالاصل) للاعتراف بأي تقصير ، كما ان ذاكرتنا الوطنية تبدو فارغة تماما من مثل هذه المواقف التي نسمع عنها في اخبار "الآخرين” الذين نعتقد (خطأ) ان اخلاقنا عند اداء الوظيفة العامة افضل من اخلاقهم.
من المفارقات ان ضمير المسؤول لدينا صحا هذه المرة على كوارث الطريق الممتد من جنوب عمان الى العقبة حين تعرض السفير الفرنسي وعائلته لحادث سير مؤسف، فجأة وكأنه يسمع للمرة الاولى بمثل هذه الكوارث التي تجاوزت (300) حادث توفي بسببها نحو (100) انسان ، قرر ان العمل لاصلاح الطريق سيبدأ في غضون ايام قليلة.
يستحق الشكر، وقبل ذلك التهنئة بالسلامة ، هذا السفير الذي جازف بالسير على هذا الطريق”الوعر” ، ودفع المسؤول في بلدنا الى القيام بواجبه والاسراع بتنفيذ الوعود التي قطعها على نفسه منذ شهور طويلة ، لدرجة كدنا نفقد فيها الامل بان ادراج مثل هذه "المأساة” التي اربكت حياة آلاف المواطنيين على قائمة اولوياتنا اصبحت بمثابة معجزة لن تتحقق.
لقد سبق وكتبت في هذه الزاوية عن الطريق الصحراوي ، وناشدت وزير الاشغال آنذاك لكي يقوم بواجبه و ينتزع من مجلس الوزراء قرارا فوريا بتخصيص موازنة لاعادة تأهيل هذا الخط الذي يربط المملكة بمحيطها العربي ، لكن يبدو ان ان "المشكلة : اللغز” اكبر واعمق مما تصورنا ، والافما معنى هذه المماطلة في قضية حيوية تتسبب بوفاة العشرات ، وتؤسس لحالة من الاحساس بالغبن والتهميش لدى المواطنين الذين يستخدمون هذا الطريق ، ولدى سكان الجنوب تحديدا الذين يعانون الامرّين.
سأتجاوز التذكير بالطريق وكوارثه ، واستأذن بالاشارة الى ثلاث مسائل تتعلق بالشأن العام : الاولى هي "البلادة السياسية” التي يعاني منها مجتمعنا ، فنحن لا نتحرك دائما الا بعد فوات الاوان ، لا اتحدث هنا فقط عن قصة "السفير والطريق” وانما عن قصص اخرى مشابهة ما زالت حاضرة في الذاكرة : قصة ذهب عجلون مثلا وقصة بناء سكن وظيفي لاحد المسؤولين التي تم تسريبها مؤخرا ..وغيرهما ، لقد اكتشفنا بعد ان سجالات طويلة واخذ ورد ان "حساساتنا” السياسة كانت معطلة وانها لم تعد قادرة على مواكبة الحدث ( دعك من استباقه؟) مما ترك فراغا ملأته الوعود والشائعات والتسريبات ، كما ملأته "طاقة” كبيرة من الاحباط والخوف والشك التي دبّت في صدور المجتمع وجرحت آماله وامنه واحساسه بالعدالة والشفافية والصدق ، وكان يمكن ان نستفيد من اخطائنا لكننا للاسف ما نزال نكررها وكأننا نصر عليها ونتعمد ترويض الناس على قبولها والاقتناع بها .
اما المسألة الثانية فهي انقطاع "البث المباشر” بين المسؤول والناس ، ومع ان هذا الانقطاع مرتبط بالبلادة السياسية الا انه تجاوزها وولّد حالة من انعدام الثقة بين الطرفين ، فقد اصبح لدينا للاسف دولة تتحرك بعض اجهزتها في اتجاه معاكس احيانا لاتجاه المجتمع ، كما اصبح لدينا طبقة من المسؤولين المعزولين تماما عن واقع الناس وحياتهم واحتياجاتهم ، لا اتحدث هنا فقط عن المسؤولين الذين يجلسون على الشرفات كمتفرجين او في مكاتبهم "كمخاتير” وانما ايضا عن "غياب” المعرفة والوعي والاهتمام لدى هؤلاء المسؤولين بأبسط ما يمكن ان يخطر الى البال من قضايا المجتمع ، وجغرافيته ايضا.
تبقى المسألة الاخيرة ، وهي ان اداء الحكومات لا يمكن ضبطه او تحسين جودته الا من خلال وجود مؤسسات رقابية فاعلة ، اهمها البرلمان والاعلام ، ولأن هذه المؤسسات تعاني من الضعف احيانا ومن الحصار احيانا اخرى ، فان الاداء العام السياسي والاداري والاقتصادي اصبح في قبضة "يد” واحدة ،هي الحكومة ، التي ادركت ان غياب الرقيب عليها يمنحها مطلق الحرية في الحركة - اقصد حرية الاستقواء على المجتمع - ، وعدم الامتثال لمطالبه وقضاياه ، ولعل ما حدث في السنوات الخمسة المنصرفه يقدم لنا نموذجا حيا لمنطق "الاستهانة” الذي تعاملت به الحكومات مع الناس ، لدرجة ان اصلاح طريق مهم كالطريق الصحراوي مثلا - رغم كل ما حدث - لم يدرج على قائمة الاولويات ، ليس فقط لان " المال” غير متوفر وانما لان الارادة غير موجودة ايضا.
لا يسعفني المجال المتاح هنا لكي استعرض ما دار من نقاشات ساخنة داخل مجلس الوزراء حين تم طرح موضوع اصلاح "الصحراوي” للنقاش ، وهي بالطبع نقاشات صادمة ( تصوّر ان بعض الوزراء دافعوا بقوة عن تأجيل هذا الموضوع واعتبروه امرا غير ملح) ، لكنني اعتقد ان ما حدث حتى بعد اعتماد قرار تنفيذ الاصلاح من خلال الاستفادة من المنحة السعودية ، والحادثة التي تعرض لها السفير الفرنسي ، يبدو امرا مفيدا ، لانه يقدم لنا "بروفة” لطريقة تعامل المسؤولين مع قضايانا العامة وازماتنا ، كما انه يقدم صورة آخرى مطابقة تماما لادائنا العام الذي ما زال يدار بمنطق الفزعة والارتجال والتسويف ايضا.