طقوس الجمعة..
لقد أصبحت الأيام بلا ذاكرة، فتيلها قصير بارد ، لا تشتعل بالتفاصيل مهما حاولنا قدح كبريت الوقت بصوان الحدث.. شخصياً لا أذكر ما الذي جرى معي طوال هذا الأسبوع ، السبت مموهاً ، ولا جديد الأحد ، أما الاثنين فاجترار للدقائق ، والثلاثاء مر عاديا، والأربعاء يشبه من سبقوه وكذلك الخميس..
بالمقابل ما زلت أذكر تفاصيل جُمعتنا القديمة ..أذكر طقوسها منذ الفجر ، رائحة القهوة المغلية على «البابور»، دخان الطابون الذي يعبق في الحي ، أذكر طقطقات «اللقن» تحت قدمي في حمّام الأسبوع، أذكر «تنكة سمنة الغزال» وماءها المغلي الذي تتم معادلته بدلو حلاوة بارد ، ولا شيء يضمن عملية المعادلة سوى كأس بلاستيكي أحمر وأصابع أمي التي تجسّ درجة السخونة قبل ان تشرع في صب الماء على جسدي النحيل ..ما زلت أذكر رائحة صابون المفتاحين المميزة ، وحرقة العينين، ومشط العظم ماركة الفيل ، حيث الأسنان الحادة والمهمة الجادة في التمشيط...اما جالون»الفليتْ» الذي يختبئ على يمين أمي فوجوده بمثابة قوة احتياطية تحدد تدخله من عدمه بعد أول «كرشتين»في المشط ..
أذكر قبّة الجامع الواسعة ، مقشورة الدهان من الداخل ، كان يسكن في باطنها زوج من الحمام البري يبني عشّاً آمناً ، يهدلُ عند خلو الجامع من المصلين وينصت عند كلمة «آمين».. أذكر نحنحات خطيب الجمعة أثناء صعوده على المنبر ، ونوم الختيارية على الأعمدة المستديرة والتفاتات الأولاد إلى الشابيك الملوّنة، أذكر وقوف كبار الحي حول المحراب حتى يدعون «الخطيب» على «الغداء» فور انتهاء الصلاة، فمن يظفر بالشيخ ضيفاً عزيزاً في بيته يظفر بالدنيا كلها..
أذكر صوت صوفيا صادق الذي ينبعث من تلفزيوننا القديم بعيد النقل المباشر وهي تنشد « أجرني اله العرش أنت مجيري»..وأشتاق إلى شدو الشيخ النقشبندي في ابتهاله المشهور «الله يا الله»..وصور الغيم الذي يمر سريعا على صوت المنشد وتفتح الأزهار وفرخ العصافير الذي يفتح فاه لرزقه وصور الأمطار في الغابات ، كل ذلك كان يرافقنا في ظهيرة الجمعة..
أذكر حديث الشعرواي الديني ، وفقرة الأطفال، ونومة العصر التي لا تهنأ الا على صوت معلق أجنبي وهو يعلق على مباراة مسجلة من الدوري الانجليزي قبل موسمين...
كانت أيامنا ممتلئة بالتفاصيل، ومفردات الحياة لم تسلّم بنادق العيش بعد ، لذا ما زلنا نحن إليها ونحبّها...
في طقوس الجمعة كان كلّ من حولنا ما زالوا حولنا...هم التفاصيل وهم الطقوس.