محاولة للخروج من المستنقع..!
حسين الرواشدة
جو 24 :
حيثما تولّي وجهك في عالمنا العربي وتدقق في الوجوه التي تراها والاحداث التي تتابعها والتصريحات التي تسمعها لا تجد سوى صورة واحدة اسمها ( الحيرة ) ولا تسمع الا صوتا واحدا يتردد صداه في كل مكان عنوانه ( الخوف ) ايضا.
حين تدقق اكثر في الصورة تكتشف ان الحالة تبدو مفزعة وصادمة، فنحن رغم ما حدث من تحولات لم نغادر مربع الشك ولم نصل الى اليقين، انجز البعض التغيير لكنهم لم يفلحوا في التوافق على البديل، نجحوا في الهدم لكنهم لم يتمكنوا من البناء، قدّموا ما بوسعهم ان يقدموه من دماء وتضحيات ودموع لكنهم لم يقطفوا الثمار بعد، زرعوا في الميادين ما لديهم من بذور لكنهم ما زالوا يقفون حول البيدر، بانتظار معرفة حجم المحصول واقتسام الغلّة.
الاسوأ من ذلك كله ان حقولنا اشتعلت بالنيران ، فثمة دماء تسيل ، وعواصف من الكراهية تنتشر، وطوائف ومذاهب تتقاتل على ضفاف الدين والهوية والوطن الواحد والملة الواحدة ، لقد كدنا ان نفقد الامل بامتنا وبانفسنا وبأوطاننا ايضا.
بصراحة، لا احد يعرف اليوم في بلداننا العربية اين هو الخطأ واين هو الصواب، من نتهم؟ عمن ندافع، اين نقف والى اين نسير؟ الحق اختلط بالباطل، والصديق الذي كنا معجبين به كشر عن اسنانه وكشف جزءا من حقيقته، الشعوب مخيرة بين "تغيير” يسترد حقوقها وكرامتها لكنه "مسيج” بالديناميت والحرائق والدماء والتدخلات الدولية وبين "صمت” على انظمة ارهقتها واوصلتها الى الهاوية.
وسط هذه الحيرة تذكرت قصة يمكن ان تساعدنا في فهم ما يحدث وهي عن( النفاخات) التي تأكل نفسها (كتبها القاص المصري محمد المخزنجي ) ، يقول : لم أعرف فى دنيا جنون البشر، ولا شذوذهم، من يأكل لحم نفسه طواعية. ولا أصدق كل المرويات عن هذه الظاهرة التى يطلقون عليها التهام الذات . أما ما يقحمونه ضمن هذه الظاهرة من قرض الأظافر وانتزاع الشعر وقضمه، فهى نوع من العصاب الوسواسى، وقد يندرج تحت هذا العصاب لعق أحدهم للدم النازف من جراحه. وهذا كله ليس أكلا من لحم الذات الذى أعتبر كل قصصه نوعا من الأخيلة السوداء. لكننى قد أصدق بعض المرويات عن أكل البشر لأجزاء من أجسامهم بالقهر والتعذيب ضمن أفظع الجرائم ضد الإنسانية، ففى القرن 16 يُحكى أن الكونتيسة السلافية إرزيبيت باثورى كانت ترغم بعض خدمها على أكل أجزاء من لحمهم. لا أعرف كيف؟! والمستعمرون الإسبان كانوا يُكرِهون سكان المستعمرات الأصليين على التهام خصاهم. وثمة وقائع مشابهة سُجِّلت حديثا فى أعقاب انقلاب هاييتى عام 1991. وبالقرب منا فى إحدى الحروب القبلية الأفريقية أُجبر الأسرى من الشباب على أكل آذانهم بعد قطعها.
ما أصدقه تماما ضمن ظاهرة التهام الذات هذه، هو ما يحدث فى عالم الحيوان وتم توثيقه علميا، ومنه أن الجنادب قصيرة الذيل تأكل أجنحتها فى بعض الحالات غير المفهومة، ومثلها أفاعى الفيران الأمريكية الشمالية التى ضُبطت متلبسة بالاستدارة على نفسها ومحاولة أكل ذيلها أكثر من مرة، فثمة أفعى من هذا النوع حاولت أكل نفسها فى الأسر مرتين، وفقدت حياتها فى المرة الثانية. بينما أفعى برية من النوع نفسه وُجِدت مبتلعة ثلثى جسمها. أما الذى استوقفنى تماما ضمن ظاهرة التهام الذات هذه، فهو كائنات بحرية تُدعى SEA SQUIRT ويترجمونها النفَّاخات .
سأبقى مع المخزنجي بنكتة وقصة اخرى: تقول النكتة، أن أحد مذنبى الدنيا عُرضت عليه ألوان العذاب ليختار من بينها، فرأى النار تشوى الوجوه، ورأى الجلود تمزقها مقالع الحديد، ورأى ورأى، وما أن أبصر مذنبين يقفون فى مستنقع فضلات ونفايات تغمرهم حتى أعناقهم، حتى سارع فى فى اختيار هذا النوع من العذاب على اعتبار أنه الأهون، لكنه بعد أن وقف مع الواقفين، رأى أحد الزبانية يعتلى تلة تشرف على المكان ومعه صفارة عندما يُنفخ فيها يتوجب على الواقفين فى المستنقع أن يقرفصوا ليغطسوا فى هذا القرف المهين، ولا يخرجون رؤوسهم إلا بعد صدور صفارة أخرى يطول انتظارها، وتتكرر دورات العذاب!
هل من امل ..؟ لا بأس ان اختم بقصة للكاتب الألبانى العالمى إسماعيل قدرى اسمها: من أعاد دورانتين ، وتحكى عن دورانتين الشابة الجميلة، التى كانت مُختطَفة بزواج قهرى تعيس فى مكان ناءٍ عن أهلها، وظهر لها كأنما من الغيب أو الضباب فارس مُقَنَّع يمتطى فرسا فتية، أركبها وراءه دون أن ينبس بحرف، لم تسمع صوته طوال رحلة طويلة عبر الغابات والتلال والجبال، ولم يلتفت إليها ولو مرة، حتى أوصلها سالمة إلى بيت أهلها، وهناك نزلت وهى تذوب شوقا لرؤية وجه مُنقذها أو سماع صوته، لكنه مضى واختفى بفرسه فى الأفق المضبب كأنه عاد إلى الضباب مثلما جاء من الضباب.
ارجو ان لا يسألني احد عن الرابط بين قصص النفاخات التي تأكل نفسها والمستنقع الذي نحاول الخروج منه والفارس البطل الذي ننتظره ، وبين الحيرة والخوف والاحباط والعبث الذي تعيشه شعوبنا ، يكفي ان نستمتع بقراءتها ونهرب كالمعتاد الى عالم اجمل ،فقد تعبنا من واقعنا البائس.(الدستور )