الهروب من الضجيج والثرثرة..!
في الايام الثلاثة المنصرفة ارتفع منسوب الكلام حول ما جرى من تغييرات في فضائنا السياسي : استقالة حكومة الدكتور النسور وتكليف د. الملقي بتشكيل حكومة جديدة وحل مجلس النواب ، حاولت ان ابتعد قليلا عن المشهد ، وقلت في نفسي : لماذا في هذا الوقت تحديدا لا اجرب حرية (الانصات) - ان شئت - حرية الصمت ، هذه التي يبدو اننا اليوم احوج ما نكون اليها، لا باعتبارها فضيلة فقط ، وانما ضرورة لكي نشعر بعافيتنا النفسية ، اوربما لارضاء ضمائرنا المتعبة من القلق.
بصراحة اعجبتني الفكرة اكثر، خاصة وانني تناولتها في وقت مضى حين اكتشفت( هل اكتشفت حقا..؟!) ان المطلوب منا ان نتكلم وان نصرخ لكي لا نفعل ولا نعمل ،فالكلام يبرئنا امام غيرنا باننا قمنا بالواجب وزيادة، ويطمئن الاخرين بان هذا اقصى ما يمكن ان نقوم به ، وبالتالي فان الكلام قد يكون دليلا على العجز فيما قد يكون الصمت(والانصات)دليلين على الحيوية والعافية.
فيما مضى كنا نشكو من استقالة الناس من السياسة وعزوفهم عنها ، لكننا اليوم - للأسف - نشعر أن السياسة استقالت من نفسها ، وأن الفعل السياسي الذي كان يشدنا إليه اصبح على الهامش بانتظار من يتعرف عليه ، أو هو - إن شئت الدقة - مجرد طلاء نزين به جدران نقاشاتنا وحواراتناالعامة.
ماذا يطلب المستمعون هذه الأيام؟ تحليلات سياسية عن التغييرات التي جرت والاخرى القادمة، المزيد من زوايا حظك اليوم وما تخبئه الابراج للطامحين في مواقع جديدة ، أخبار عاجلة عن احتقانات في مجتمعناخلّفت وراءهامزيدا من الدمامل، وجاهات تعد بالصلح القريب وشرب ما يلزم من فناجين القهوة ، تغييرات محتملة في بعض المؤسسات ، بالمناسبة ربما سيكون من حظ بعض المتعطلين عن العمل ان يجدوا فرصة لمقعد شاغر ، ليس بالضرورة ان يكونوا ابناء او احفادا لرؤساء ووزراء ومسؤولين...، قليل من المعرفة يكفي !
نحن سعيدون حقا بافتتاح بازار الكلام؟ لمَ لا ، حين ينهض احدنا من النوم يشعر أنه بحاجة لمزيد من الاسترخاء ،لطابق من الثرثرة وفنجان قهوة سادة ، لمشاجرة في الشارع يتفرج عليها ويقضي يومه وهو يفكر فيها او يتحدث عنها لزملائه في العمل ، لحالة من السكون التي تعينه على الهروب من ضجيج المدن ، والاولاد وهموم الدنيا ومفاجآتها.
وسط هذه المناخات الصيفية تبدو مبررات الصمت ( بالنسبة لي على الاقل ) مقنعة ، اقلها انها تريح النفس من جهد لا نتيجة له، وتضمن ألاّ انام في المقبرة ولا تزعجني كوابيس الاموات، واتفادى لغط التأويلات المغشوشة التي يمارسها النمامون -وما اكثرهم -، وامارس فرصتي في متابعة المشهد من بعيد دون ان انخرط في التفاصيل ،واترك لغيري من( الجهابذة ) القيام بالدور الذي استقلت منه ، ولو مؤقتا .
في تراثنا ثمة ما يشير الى هذا المعنى ، فكلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة كما يقول النفري الصوفي ، وصمت الانسان دليل على رزانته وحكمته ، واذا كان الكلام من فضه فالسكوت من ذهب ، وفي علم الصوفية يخضع (المريد) لتمارين صعبة يتعلم من خلالها (فن) الانصات والصمت ، كما ان الصيام عن الكلام كان امتحاناً لأحد الانبياء ، وهو في الفلسفة حضور للذات والروح واكتشاف للوجود الانساني ، او - بتعبير الجاحظ - (بلاغة) ، حيث السكون والاشارة للمعنى اعلى مراتب (البلاغة). .
لست وحدي من اختار الصمت ، فالسياسة ايضا تنازلت عن حقها في الكلام ، هل كثير على السياسة أن تكون مثلنا؟ ان تستريح قليلا وتمارس هواية حلِّ الكلمات المتقاطعة ، أن تلعب - كما كنا نفعل ونحن صغار - لعبة "الطماية” ، أن تهرب الى الحقول البعيدة لتخلو مع نفسها في زمن تراجعت فيه فرص الخلوات، ان تأخذ اجازة للاستجمام أو - إنْ تعذّر ذلك - حماما دافئا لتستعيد بعده بعض النشاط؟
ليس كثيرا أبدا... لقد تعبنا من ضجيج الفراغ.