2024-08-28 - الأربعاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

مشروع لافارج في الفحيص.. سوف يهجر المزيد من المسيحيين

ناهض حتر
جو 24 :
منذ الحرب العالمية الأولى، جرى قتل أو تهجير ملايين المسيحيين من بلاد الشام؛ الحصار العثماني على جبل لبنان أباد، بالجوع، ما بين ربع ونصف سكانه الموارنة، تلا مذبحة الجوع هذه مذبحتان عثمانيتان أبادتا حوالي مليون ونصف المليون أرمني وحوالي نصف مليون سرياني سوري. وخوفا من الحراب العثمانية، هاجر مسيحيو السلط إلى فلسطين مؤقتا. وهي، كلها، أحداث دموية أدت إلى رفع وتيرة الهجرة الطوعية والفردية؛ فالذاكرة الجمعية للمسيحيين هي ذاكرة الإبادة. لكن كان هناك، في الثلاثينيات، عملية تهجير المسيحيين السوريين من لواء الإسكندرون الذي اغتصبته تركيا بالتعاون مع الاستعمار الفرنسي.

إثر زوال الدولة العثمانية، حصل اللبنانيون على دولة بقيادة مارونية؛ لكن نزيف الهجرة استمر وتصاعد؛ هذه المرة ليس بسبب أمني وإنما بسبب اقتصادي؛ فرأسمالية الخدمات المالية والعقارية والسياحية، دمرت منظومة الانتاج الفلاحي الحرفي والمجتمعات المارونية المحلية، ما أدى إلى هجرة اقتصادية كثيفة.

الموجة التالية من المهابدة والتهجير، شهدها مسيحيو لبنان خلال الحرب الأهلية ( 1975 ـ 1990) تحت شعارات " ثورية" مكتظة بالطائفية الميدانية؛ وفي نهاية تلك الحرب المشؤومة، بدأ مسلسل الهجرة المسيحية من العراق؛ فالعدوان والحصار الأميركيان على البلد أدى إلى التضييق المعيشي والأمني على مسيحيي العراق، ما دفعهم إلى التناغم مع المخططات الغربية لتهجيرهم؛ ثم جاء الاحتلال الأميركي الغاشم، العام 2003، ليحوّل العراق من دولة مدنية إلى دولة دينية. وقد اعتبرت " القاعدة" وتنظيمات أصولية أخرى أن مسيحيي العراق أولى بالجهاد من المحتلين. وظل نزيف المسيحيين العراقيين بالقتل والهجرة، مستمرا من 2003 إلى 2014، حين أدت مجازر داعش إلى تهجير مَن بقي من مسيحيي العراق.

قبل ذلك، في العام 1948 و1967، هجّر الاحتلال الصهيوني مئات الآلاف من الفلسطينيين، ومنهم المسيحيون. لكن خطة الصهاينة دأبت على دفع المسيحيين الفلسطينيين إلى الهجرة، لإفراغ فلسطين منهم، واسداء طابع ديني على الصراع بدلا من طابعه القومي.

تمتّع المسيحيون في سوريا، دائما، ليس بالاستقرار والأمان والإزدهار فقط، بل بالمشاركة الفعلية في الحياة الوطنية وفي السلطة السياسية ( بما في ذلك تولي مناصب قيادية في الجيش والمخابرات ووزارة الداخلية والمحافظات..الخ) مما جعلهم أقلّ رغبة بالهجرة. ومع ذلك، فإن الذاكرة الجماعية لمسيحيي المشرق، ذاكرة المهابدة، كانت تدفع بأعداد منهم إلى الهجرة، حتى نشوب الحرب الأهلية في سوريا التي أدت حتى الآن إلى هجرة ما يقرب من المليون مسيحي سوري. وهكذا تحقق أحد مطالب " الثورة" منذ يومها الأول، حين طالبت المظاهرات بتهجير المسيحيين علنا.

ربما كان المكون المسيحي الأردني هو أقوى الجماعات الاجتماعية المسيحية في المشرق؛ فالشكل الاجتماعي لوجود المسيحيين الأردنيين، هو شكل عشائري مثّل، لسنوات طويلة، مفصلا من مفاصل عصبية الدولة والحركة الوطنية.

وبسبب تراث من التركيز على التعليم والعمل الخاص في الزراعة والتجارة، حاز المسيحيون الأردنيون على مستوى حياة أفضل، وقدموا مساهمات أساسية في الحقول الاقتصادية والسياسية والثقافية والأدبية. ومع ذلك، فإن القسم الأساسي من مسيحيي الأردن هم الآن مهاجرون. وما يزال نزيف الهجرة مستمرا. وهو ما يمكن تفسيره بالمناخ العام في المنطقة، وتصاعد الأصولية المحلية، وانعدام وجود التمثيل السياسي الشعبي في مرحلة أفول الحركات اليسارية والقومية.

وهناك ، بالطبع، سبب للهجرة يشمل الجميع، يتمثل في الضغوط على الفئات الاجتماعية الوسطى، بالنظر إلى السياسات النيوليبرالية، لكنه يتلاقى، عند المسيحيين، بذاكرة الخوف ومشاعر القلق.

واحد من أهم مراكز المسيحية الأردنية والعربية هو القائم في مدينة الفحيص؛ فببنيتها العشائرية وصلابة عصبيتها ومستوى حياتها وحيويتها الثقافية، كلها عوامل تلعب في تحصين الحضور المسيحي في المدينة، وتكثيفه. وحتى المهاجرون من الفحيص ليسوا مهاجرين دائمين أو منقطعين؛ فهم على صلة دائمة بالمدينة، لا يبيعون أرضهم، ويقوم معظمهم ببناء منازل للعودة، يوما ما.

الفحيص الآن معرضة لخطر جسيم، سوف يؤدي إلى تهجير معظم أهلها، وقطع الصلات بينها وبين المهاجرين منهم؛ هذا الخطر ليس أمنيا، وإنما هو ناجم عن فساد الخصخصة والنيوليبرالية: إن ألفا وثمانماية دونم من أراضي الفحيص (أراضي مصنع الإسمنت) التي تستولي عليها الشركة الفرنسية لافارج وشركاؤها المحليون، سوف تُباع في أكازيون عقاري، سوف ينتهي بالقضاء على الطابع السكاني والاجتماعي والثقافي لمدينة الفحيص التي لن تعود، بعد، مركزا للمسيحية الأردنية والعربية.

لقد قيل الكثير في الخطابات الرسمية والشعبية عن ضرورة الإبقاء على مسيحيي الأردن، والحيلولة دون هجرتهم خارج البلاد؛ لكن ها نحن أمام امتحان واقعي حادّ؛ فإذا كان هناك مَن هو مخلص فعلا للحفاظ على الوجود المسيحي في الأردن؛ فليقل لا كبيرة لمشروع لافارج وسماسرة الأراضي.
 
تابعو الأردن 24 على google news