الأردن على مفترق طرق استراتيجي
كل ما جرى ويجري من مناقشات حول الأزمة السورية ـ والموقف الأردني حيالها ـ يقع في باب السجال: ثورة أم مؤامرة؟ نظام مستبد قاتل أم نظام يدافع عن وحدة سورية واستقلالها؟ مساعدات خليجية واجبة للثوار أم تدخل أسود ولا شرعي في شؤون سورية؟ دعم تركي لثورة سُنيّة أم غزو عثماني جديد؟ تحالف الثورة مع الولايات المتحدة وإسرائيل أم عجز الغرب والعرب عن نصرة الثورة؟
لكي نتوصل إلى نقاش جدي مثمر، علينا أن نضع كل تلك الثنائيات جانبا. أيضا، لا فائدة من الثرثرة المتصلة بمشكلة اللاجئين السوريين. هذه المشكلة نحن صنعناها عن طريق تشجيع اللجوء، وهو في معظمه اقتصادي.
تعالوا نذهب إلى رؤية المشهد الاستراتيجي المتكوّن مثلما هو في الواقع الصلب، بلا ظلال عاطفية أو أيديولوجية أو أحقاد أو أجندات. وذلك، لكي نتوصل إلى أفضل مقاربة تراعي المصالح العليا لبلدنا.
المشهد الاستراتيجي القائم فعلا هو الآتي:
سورية، في التحليل الأخير، هي ميدان صراع كاسر بين محورين دوليين إقليميين، هما:
(1) المحور الأميركي الخليجي التركي الإخواني السلفي الجهادي. وهو على وشك هزيمة جزئية، تتمثل في انجازات الجيش العربي السوري في الميدان، وحملته الناجحة لتحويل التمرد من حالة هجومية إلى حالة دفاعية، وقبول الأطراف الأساسية في هذا المحور بالتسوية، على أساس الحفاظ على الجيش الوطني وتوكيله، دوليا، مهمة ضرب العناصر الإرهابية، والحفاظ على ثوابت السياسة الخارجية السورية المعروفة، وأساسيات الدولة السورية القومية العلمانية الخ
(2) والمحور الصيني الروسي الإيراني العراقي السوري اللبناني ( قوى 8 آذار). وهو على وشك انتصار جزئي؛ فالنظام السوري باق، ولكنه سيتسع لضم فئات جديدة ليست من دائرته الاجتماعية السياسية، والرئيس بشار الأسد باق، لكن صلاحيات الرئاسة ـ خارج وزارتي الدفاع والخارجية ـ سوف تتقلّص. وسيكون هناك اضطرار للعديد من التسويات الداخلية في سياق تجميع الجهود لإعادة البناء. وهذا السياق كله، من شأنه أن يشرعن الصراع الداخلي في أطر سياسية، بينما الأرجح أن تستمر العمليات الإرهابية زمنا.
(2)
خلاصة المشهد، سوف نخرج من الحرب على سورية، ونحن نواجه ولادة محورين يشقّان الإقليم كله. ومشكلتنا الجوهرية، بذلك، هي الآتية:
أن المحور الأميركي الخليجي ... يسير في ملف التسوية الفلسطينية، في مسار من التنازلات ومراضاة الإسرائيليين، سوف ينتهي، واقعيا، بتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن. وبذلك، يكون حلفاؤنا التكتيكيون هم أعداؤنا الاستراتيجيون.
وبالمقابل، فإن مَن يصنّفهم النظام الأردني، في خانة الأعداء، هم، في الواقع، أصدقاء الأردن الاستراتيجيون؛ فالمحور الروسي الإيراني السوري ... يقف بالمرصاد لتصفية القضية الفلسطينية، ويرفض الوطن البديل ومجمل المقاربة الأميركية ـ الإسرائيلية للحلّ.
(3)
المحور الأميركي الخليجي ... يضغط على الأردن من أجل التورّط بأدوار سياسية وأمنية في سورية وفلسطين، ولا يهتم، مطلقا، بالآثار السلبية، الأمنية والسياسية والاقتصادية، الناجمة عن ذلك التورّط .
بالمقابل، لا يطلب منا المحور الروسي الإيراني ... شيئا ـ أي شيء ـ سوى الحياد. وهو مستعد للتعاون معنا في كل المجالات التي تهمنا، سواء في مواجهة خطط الكونفدرالية والوطن البديل أو في مواجهة التحديات الاقتصادية والتنموية.
(4)
وسط كل ذلك، وعلى أساسه، سوف نقترب من المشهد الإسرائيلي: حين يتبادل المحوران الاعتراف، سوف تواجه اسرائيل، أزمة مصيرية؛ فالحرب سوف تغدو ممنوعة، ولكن المقاومة، من الجهة المقابلة، سوف تستمر على مستوى منخفض، ولكنه سيجبر الإسرائيليين، في النهاية، على تسوية مذلة مع التحالف السوري اللبناني، بينما تتجه اسرائيل للبحث عن مجالها الحيوي في فلسطين والأردن. أعني أن نشوء المحورين سيقلص هامش الحركة أمام تل أبيب في حدود المدى الفلسطيني الأردني ( مصر لها حسابات معقدة، سوف تنتهي بالقطيعة مع إسرائيل). وهو ما سيحمّلنا العبء الرئيسي للمشروع الصهيوني المتقلّص. إسرائيل، ستخرج من سنوات الصدام هذه أكثر هشاشة من أي وقت مضى. وسيكون من الغباء إجراء أي تفاهمات معها قبل أن تنقشع الصورة الإقليمية.
(5)
هذه هي الحقائق الاستراتيجية التي ينبغي للأردنيين، البناء عليها، للتوصل إلى مقاربة وطنية واقعية تحافظ على، وتعزز استقلال الأردن إزاء المحورين القائمين، وتفتح الباب للاستفادة من العلاقات المتوازنة معهما في كافة المجالات.
واقتراحنا يتلخّص في كلمة واحدة: الحياد. الحياد الاستراتيجي في سياسات ذات صدقية؛ لا تورّط ( من أي نوع) في سورية أو في فلسطين، لا تعاون ولا تنسيق مع إسرائيل، ولا الانخراط في مبادرات تصفوية، وترفّع عن الصراعات المذهبية والطائفية، وإعادة بناء الأردن كمركز اقتصادي تنموي يجتذب كلا المحورين، وإنما وفق السيادة، أي بلا شروط سياسية، وكذلك على أساس أولوية الدور الاقتصادي الاجتماعي للدولة.
(6)
يقع على الملك عبدالله الثاني، عبء إدارة عملية الاستدارة وتجديد السياسات، وفق مبدأ الحياد.
ولماذا الملك؟
لأن طواقم الحكم الحالية ليس لديها التأهيل السياسي والخيال السياسي اللازمين لإدارة سياسة الحياد بين المحورين. جميع الطواقم الموجودة مدربة وفق تقاليد لم تعد فعالة، أعني تقاليد الإدارة في ظل القطب الواحد والعلاقة الثنائية المميزة مع إسرائيل في ظل أوهام السلام ، والعداء لمحور المقاومة والممانعة، والنظرة إلى الاقتصاد من موقع البزنس.
يختلف الملك عن هذه الطواقم بأنه يمتلك الغريزة الموروثة، غريزة البقاء وتحويل المتغيرات إلى فرص. وهو الآن أمام مهمة كبرى هي بناء طواقم جديدة ملائمة لإدارة المرحلة المقبلة التي تحتاج إلى رجال دولة من نوع مختلف، ثقافيا وسياسيا ومهنيا.
(6)
المفاجأة أنه يوجد في صفوف الحرس القديم من يدير مرحلة سياسات الحياد والإفادة من الفرص المعروضة. بل ويلوح أمامي الآن سياسي متقاعد (ومبتعد تواضعا) يتميز بالوطنية والنزاهة والذكاء والخبرة الطويلة ( برفقة الراحل الملك حسين). وهو، إلى ذلك، يملك رؤية استراتيجية مطابقة للمرحلة، وواصل، دائما وحتى الآن، علاقات طيبة مع الروس، ويمكنه تطوير العلاقات مع العراقيين والسوريين واللبنانيين، مثلما يمكنه استقطاب طواقم مهنية كفؤة في كل مجالات عمل الدولة. واسمحوا لي أن احتفظ بالاسم الكريم.
العرب اليوم