المنظمات غير الحكومية وحقيقة التمويل الأجنبي
كتب تامر خرمه
منذ سنوات، ومازال الحديث يدور حول التنمية المستدامة التي ينشد البعض تحقيقها عبر المنظمات غير الحكومية، حيث نشطت العديد من تلك المنظمات بشكل لافت في الآونة الأخيرة، وحصدت ملايين الدنانير التي يتم صرفها على نشاطات ومشاريع لا تنتهي.. ولكن دون تحقيق أية فائدة تسهم في التخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة.
الملايين التي تتدفق إلى المنظمات غير الحكومية تعتبر جزء من المساعدات الأمريكية والأوروبية التي يتم تقديمها للأردن، غير أن لهذه الأموال طريق واحد فقط، هو جيوب القائمين على هذه المشاريع البعيدة كل البعد عن احتياجات الناس الحقيقيّة، والتي تعطي انطباعا بأن الأردنيين حققوا كافة شروط حياة الرفاه، ولم يعد ينقصهم سوى الاعتناء بالبيئة والتفكير بمستقبل كوكب الأرض الذي يواجه ظاهرة الاحتباس الحراري، أو كأن الإنتاج الوطني حقق الاكتفاء الذاتي لهذا البلد، فبات من المفيد أن نفكر في كيفيّة الإنفاق على مختلف وسائل الترفيه والترف !!
ومن المشاريع الغريبة التي تضطلع بها مثل هذه المنظمات، ما يتعلق "بالعلاج عبر ركوب الخيل"، فعوضا عن افتتاح مراكز رعاية لذوي الاحتياجات الخاصة، أو دعم المؤسسات التي تحاول تدريب هذه الفئة لتمكينها من الإنتاج، رفعت المنظمات غير الحكومية سقف طموحها إلى استخدام الفروسية لعلاجهم، وكأن كل منهم امتلك كافة وسائل تحسين وضعه الصحي ولم يبق أمامه إلا ركوب الخيل.
وهكذا تم دعم وتمويل مركز "فورست هيل" للفروسية من قبل "المؤسسة الاردنية لتطوير المشاريع الاقتصادية JEDCO"، لتتدفق 97 ألف يورو إلى هذا النادي الربحي.. ويكون الشركة رقم 262 من ضمن الشركات الاستثمارية التي تلقت تمويلا بقيمة 9 ملايين يورو لم تسهم في تقديم أي حلّ للأزمة الاقتصاديّة الخانقة.
ومن خلال مثل هذه المشاريع، بات بإمكان المنظمات الغربيّة الادعاء في بلدانها بأنها تساعد الدول النامية، في الوقت الذي يقتصر فيه تقديم هذه المعونات على أصحاب المشاريع الاستثماريّة في تلك الدول، حيث يستمر العزف على أوتار الحديث عن التنمية المستدامة لجذب المزيد من الدنانير للشريحة الاجتماعية الوحيدة التي لا تحتاج لأية معونة، وهي الشريحة التي تستأثر بالثروة.
وقد يتساءل أحدهم، ما الذي تسعى هذه المنظمات لتحقيقه بعد كل ما تبذله من جهد لا يعود بأية فائدة لشعوب الدول النامية.. فإذا وضعنا جانبا كل ما يتعلق بسيناريوهات الاستخبارات الغربية ووسائل جمع المعلومات، وسلّمنا بأن للمنظمات غير الحكوميّة أهدافا اقتصاديّة بحتة، فأقل ما يمكن قوله حول آلية إنفاق المنظمات غير الحكوميّة إنها محاولة لخلق مساحة فساد موازية لتلك التي تهيمن على العديد من مؤسسات الدولة.. ولكن لماذا ؟!
والغريب أن بعض هذه المنظمات تحصل على تمويل لمشاريع معيّنة، قبل أن تنهمك في مشروع مختلف تماما لا يتيح لها التفكير خارج إطاره، فمؤسسة عامر بني عامر -على سبيل المثال- تلقت مبلغ 99000 يورو كتمويل لمشروع "تعزيز روح المبادرة في جيوب الفقر في الأردن- بلدية كفرنجة"، دون أن ينعكس هذا المبلغ على الوضع المعيشي لأهالي كفرجنة، ناهيك عن انهماك المؤسسة في مشروع "راصد" المتعلق بالانتخابات النيابيّة المرتقبة.
4000 متطوع يُنتظر تفرغهم بشكل كامل في يوم الاقتراع ، كما يعمل العديد من المتطوعين منذ فترة لرصد مجريات العملية الانتخابية في دوائر التسجيل، حيث لا يحصلون على أي مقابل باستثناء تكاليف المواصلات، وذلك رغم المبالغ الطائلة التي تحصل عليها هذه المؤسسة كمساعدات ومعونات من الدول المعنيّة بانتخابات البرلمان الأردني، المزمع إجراؤها وفق قانون يعيد تدوير المجالس النيابيّة السابقة.
والسؤال الآخر الذي يفرض نفسه هنا، ما هي علاقة البذخ الذي تشهده مشاريع التمكين الاقتصادي الوهميّة، والتي تديرها العديد من المنظمات غير الحكوميّة، بنموذج الديمقراطيّة الذي قدّمه الأردن ونال رضى الغرب، وفقا لما قاله وزير الخارجية ناصر جودة في أحد تصريحاته ؟!
قد نجد إجابة على هذا التساؤل المشروع في التصريحات المتكررة لسفيرة الاتحاد الأوروبي د. يؤانا فرونيتسكا حول ربط الدعم الذي يحصل عليه الأردن بالإصلاحات السياسية، ولكن هل يمكن اعتبار ما تحصل عليه المنظمات غير الحكومية جزء من هذا الدعم ؟؟ وهل يمكن اعتبار ما يشهده الأردن من سياسات تدفع باتجاه التأزيم إصلاحا سياسياً ؟!!
من أولويات الأوروبيين ما يعمل الأردن الرسمي على تحقيقه عبر استقبال اللاجئين السوريين ومنع تدفقهم إلى جزيرة قبرص، وفقا لما قاله أحدهم لزميل حاول الاستفسار عن مصير الملايين العشرة التي دفعها الأوروبيون للأردن مقابل إغاثة اللاجئين السوريين، في ضوء مرارة الظروف التي يعانيها هؤلاء اللاجئون الذين يفتقرون لأدنى متطلبات العيش الكريم.
ليست كرامة اللاجئ أو إنسانيته هي ما يثير اهتمام الممول الأوروبي، بل ضمان بقائه بعيدا عن أراضيه، وفقا لصحابنا، الأمر الذي يعبّر عن أولويات الاوروبيين، والمتمثلة بالدور الذي يلعبه الأردن على المستوى الإقليمي، بعيدا عن رغبات وطموحات من يقيم بهذا البلد سواء أكان لاجئا أو حتى مواطنا.
وعند طرح المسألة في سياق التطورات الإقليميّة، لا بد لنا أن نتساءل عن الدور الذي تلعبه المنظمات غير الحكوميّة في ضوء توجهات المموّل الأجنبي، خاصة إذا ما قارنّا طبيعة عملها في الأردن بما قامت بتجسيده على أرض الواقع في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، حيث نجحت بخلق اقتصاد هامشي بديلا عن الاقتصاد الوطني الفلسطيني، بعد أن انسحب آلاف الشباب من سوق العمل للتفرغ في نشاطات ومشاريع هذه المنظمات، حتى بات من المستحيل التفكير باستقلال السلطة الفلسطينية عن الاقتصاد "الاسرائيلي".
ولكن ما علاقة الأردن بهذا السيناريو.. قد يعتبر أحدهم أن ربط هذه المسألة بتصريحات فاروق القدومي حول "وحدة الضفتين" فيه الكثير من المبالغة، غير أن طبيعة المشاريع التي تمنحها الدول المانحة أقصى أولوياتها هي ذاتها تلك التي بدأت المنظمات غير الحكومية بالعمل على تجسيدها في الأراضي الفلسطينية قبل أن تصل إلى تقويض الاقتصاد الوطني الفلسطيني.. وخاصة تلك المتعلقة بتمكين المرأة.
وبعيدا عن هذا السناريو المرعب، الذي قد يتهمنا البعض بالاستناد إلى نظرية المؤامرة في إخراجه، من حقنا على الأقل أن نتساءل عن الفائدة التي حققها مبلغ 83799.90 يورو التي حصلت عليها جمعية النساء العربيات في الأردن من أجل مشروع قيل أنه يسهم في "تعزيز استراتيجيات التنمية المحلية في منطقة الأزرق"، دون أن يعلم احد ما هي "الاستراتيجيات" النسوية لهذه المنطقة !!
الأموال التي يتم إغداقها على مشاريع محدّدة -يرتبط بعضها بدور الأردن فيما يتعلق بالتطورات الإقليمية ويتصل بعضها الآخر بقضايا الطفل والمرأة- تأتي غالبا من ذات المصادر الممولة لمشاريع تحمل نفس ما كان يطرح من عناوين على الساحة الفلسطينية، والتي لا يمكن قراءة ما يدور فيها بمعزل عن واقع الاحتلال.. ولا داعي للذهاب إلى أبعد من ذلك عبر المزيد من الاستنتاجات.. فكل ما نحاول طرحه هنا يتمثل في التساؤل التالي: ما الذي ينتظره المموّل بعد هذا الكرم الحاتمي، الذي لا يعود على الأردنيين بأية فائدة تذكر ؟!