تركيا تولد من جديد..
ستّ ساعات أمام شاشة التلفاز ،لم أتابع فيها أخباراً عاجلة وحسب، ولا تصريحات متأرجحة بين الطمأنينة والقلق..ولا صوراً حية لأنقرة واسطنبول المضيئتين بوهج الحدث..ستّ ساعات أمام شاشة التلفاز كنت أتلقى خلالها درساً خصوصياً وعملياً في وعي الشعوب..
في حصص العلوم كان يحضر لنا مدرّس العلوم مجسماً بلاستيكيا للدماغ ويبدأ بالشرح عن أجزائه..كنا نتحلّق حول «العقل» الاصطناعي نراقب تعرجاته وأعصابه الدقيقة ،وعندما لمسناه بأيدينا فهمناه أكثر، وحفظناه في ذاكرتنا أكثر، بعد ان تبدّد كل ما كنّا نتخيّله خلف قشور جماجمنا..
ما حدث في تركيا ليلة السبت كانت حصّة علوم موسعة...رأينا بأم أعيننا درساً «مجسداًً» لوعي الشعب درساً «مجسّداً» لمصطلح الديمقراطية الذي نردده كببغاء يباع من مالك لمالك دون ان تكون حريته جزء من الصفقة ، كان درسا في علوم «الوطن»، في علوم «الحكم المدني» ،في علوم «صوتي» الذي انتخب به لن يتحوّل إلى رصاصة أقتل بها، في علوم «الارداة الشعبية» في علوم «الشرعية المنتخبة»..في علوم الانجاز..
أقل من 15 ثانية عبر «سكاي بي» كانت كفيلة ان تنقذ تركيا..وتنزل الملايين الى الشوارع والميادين..أقل من 15 ثانية جعلت الشعب يهتف لتركيا الحديثة تركيا التقدم لا لتركيا الانقلاب..رجال،نساء،أطفال،مقعدون ..نزلوا بعد منتصف الليل يتحدّون الدبابات بحناجرهم ..فتحوا صدروهم لفوهاتها...تمددوا تحتها..طوقوا الانقلابيين بوعيهم وحرروا الفضائية التركية الرسمية، طوقوا المطار ..ثم حرروا المطار من أفراد الانقلاب.. لم يحملوا بأيديهم الا علم «تركيا» ولم يهتفوا الا لتركيا..لا يعنيهم أردوغان ولا صور أردوغان ولا مصير أردوغان بقدر ما ..يعنيهم شرعيتهم هم ..إرادتهم هم..وطنهم هم...ومصيرهم هم..
كان درساً في تهجئة التقدم ،والحكم القادم من الشرعية، درساً في الوقوف مع الشرفاء الذي لا يسرقون ولا يفسدون ولا يقدمون الكرسي على «إمامة» الوطن..
نزلت الدبابات إلى الشوارع ،فطلب أردوغان من الشعب النزول ومواجهة الدبابات...في بلد عربي شقيق..نزل الشعب إلى الشارع فطلب الرئيس إنزال الدبابات لمواجهة الشعب..»درس في حكم الشعوب»..
في البلاد العربية أثناء الاضطرابات كنا نرى الجيوش تنتشر لقمع المظاهرات واعتقال المتظاهرين..ما رأيناه أمس كان كاريكاتورياً من وجهة نظر عربية ..المتظاهرون الأتراك هم من قاموا باعتقال أفراد الجيش المتورطين وتسليمهم للدولة...»درس في الوعي»
في البلاد العربية..بعض الأحزاب المعارضة تقتنص فرصة الترنح للانقضاض على السلطة دون وجه حق..وبعضها جاء على ظهر دبابة أمريكية محتلّة سحقت أبناء شعبه ليرتع وحيداً في برك النفط...أما في الدرس التركي ..الأحزاب المعارضة في تركيا توحّدت مع الشرعية رغم الخصومة العالية..ولسان حالها يقول: «هزمنا في الصندوق الانتخابي « ولن نقبل ان ننتصر للفكر «الانقلابي».. درس في نضوج فكرة «المعارضة»..
عندما تشاهد المواطن التركي يتنافس مع رجل الأمن في الحفاظ على الممتلكات ،و عدم مس الدبابات والآليات بسوء لأنها ملك الشعب، فكل شخص يعتبر نفسه المؤتمن الأول على بلده فهذا درس في «اثبات المواطنة» الصالحة..
قد يسأل البعض، سيما من لم يطب لهم إفشال الانقلاب...لماذا كل هذا الحماس والتعاطف العربي الواسع مع تركيا؟؟...ببساطة لأن تركيا نموذج حي وحديث للنهضة الاقتصادية في الشرق الأوسط ، نموذج يعطي بارقة أمل للدول الغارقة بمشاكل البطالة والمديونية والفساد ان تتجاوز محنها وتنهض كما فعلت ..تركيا نموذج حي وحديث ايضاَ للديمقراطية القريبة من العواصم العربية التي لا تنتج هذه «الفاكهة» التي تحتاج الى تربة من الوعي والتعددية وتداول السلطة ...
هي حلم الحكم الحزبي..الحزب الذي يحصد تأييداً وشعبية هو من يستحق ان يحكم..لا انقلابات...ولا توريث...تركيا هي الضوء في العتمة ...وهي قبلة العيون التواقين للازدهار ، عيون المتعبين المتأملين التقدم ببلادهم حيث تبصر بعينين واسعتين النجاح في الاقتصاد والسياسة «اسطنبول وأنقرة»..
ست ساعات..كانت كفيلة ان نقطف عشرات الفوائد والعبر من دقّات عقاربها...
ما تزرعه في الشعب تحصده منه
الإرادة الشعبية الوطنية التي لا تتحرك بأجندات خارجية هي الوحيدة الكفيلة بإغلاق فم الدبابة...
اذا كان الشعب معك فحتماً سيحميك وان كان الجيش والعالم ضدك...واذا كان الشعب ضدّك،فحتماً لن يحميك أحد وأن كان الجيش والعالم معك..
تركيا تولد من جديد..الأمل يولد من جديد..
وشكراً للشعب العظيم...
الراي