jo24_banner
jo24_banner

«الفكرة» حين تمشي على الأرض

حسين الرواشدة
جو 24 : أخطأنا مرتين: مرة حين تصورنا بأن ما حدث من تحولات في بلادنا كان مجرد “غيمة” عابرة، يمكن أن تمرّ دون أن “تمطر” ودون أن يتغلغل هذا المطر في دواخل الناس، ومرة اخرى حين تفاجأنا بما أفضت اليه هذه التحولات من “افكار” جديدة، فقررنا للأسف “اقتلاعها” من الجذور، أو إيداعها في السجون.

المشكلة أننا لم ننتبه إلى أن معادلة “الحذف” والإقصاء يمكن ان تنجح في تعاملنا مع الأشياء “الجامدة” والأشخاص - ربما - لكنها لا يمكن ان “تقتل” الأفكار أو تلغيها أو تجردها من روحها التي غالباً ما تمتد في الزمان والمكان.

لنعترف - أولاً - بأن ثمة “افكاراً” سقطت واخرى “نهضت”: سقطت فكرة الخوف، وسقطت فكرة “بلع” الأوامر والمطالب وفكرة الوصاية والطاعة، ونهضت في موازاة ذلك أو على انقاضه فكرة “الإرادة الحرة” والانعتاق وفكرة الدوران حول “الهدف” والمشروع، وفكرة “الشوق” الى الكرامة والحرية.. والحق ايضاً.

في الماضي كان بمقدورنا أن نودع بعض الأفكار في السجون، لأنها كانت أفكارناً “ميتة” أو “قاتلة”، يرفضها المجتمع أصلاً ويعاندها، لكن اليوم “ولدت” افكار جديدة لا يمكن أن “تسجن” أو ان تحذف، ومن واجبنا أن نتعامل معها بحكمة وحذر، فهي - أولاً - خرجت من قمقم “الخوف”، وهي ثانياً أصيلة وليست طارئة، وهي ثالثاً تعبر عن “ضمير” الجماعة لا عن ضمير فرد أو فئة، وهي رابعاً تتناسل وفق السنين التاريخية ولا يمكن حصارها أو حقنها بعقاقير “العقم” المألوفة.

من المفارقات أن إيداع الناس الذين “تصدمنا” أفكارهم أحياناً في السجون يسمح لأفكارهم ان تخرج وتمتد بصورة لا نتوقعها، بل ويمنح هذه الأفكار طابعاً من “الشهرة” لم تكن لتبلغها أصلاً فيما لو ظلت تدور في الفضاء الطبيعي، ومن المفارقات - ايضاً - أن هؤلاء الأشخاص غالباً ما يتحولون الى “أبطال” حتى لو لم يسعوا الى ذلك.

الفكرة - في الأصل - تحتاج لفكرة اخرى تدحضها، وصراع الافكار مسألة مشروعة، ويمكن تأطيرها في اطار “أخلاقيات” الاختلاف وآدابه، وقاعدة الحوار (الصراع أحياناً) تحتاج لفهم عميق “للتربة” التي خرجت منها الفكرة، والعوامل الخارجية التي تحيط بها وتثيرها، والأسباب التي تدفعها أحياناً الى الكمون وأحياناً الى العلن.

بعض “الأفكار” تصدمنا أحياناً، وتخرج أحياناً اخرى عن سياقات “أعراف” المجتمع وتقاليده، وقد تكون “مدانة” بحكم القانون، لكن فضيلتها أنها تبعث لنا برسائل مشفرة أحياناً أو “عيانية” يمكن أن نقرأها، ويفترض أن نتعامل معها بمنطق “الفكرة” ذاتها، حيث المجال “للعقل” والحكمة وليس الانفصال أو الإدانة ولا السجن أيضاً.

ما لم نفهم معادلة الفكرة التي تلد وتتناسل لا يمكن ان نفهم معادلة “الثورة” التي تخرج فجأة بلا استئذان ولا موعد، وما لم ندرك “كرامة” الفكرة التي تتجاوز كرامة الاشياء والاشخاص، لا نستطيع أبداً ان نستدرك مدى “غضب” الناس حين يشعرون بأن أفكارهم مُهانة ولا قيمة لها لدى الآخرين.

باختصار، ثمة من يريد أن تنتصر الأفكار “الميتة” على الأفكار “الحية” وثمة من يحاول إيداع “الناس” في السجون لمنع أفكارهم من الانشتار، والنتيجة دائماً تأتي عكس الاتجاه، لأن “الموت” - حتى الموت - لا يستطيع أن يلغي فكرة لها روح ترفرف في الفضاء.

الدستور
تابعو الأردن 24 على google news