مناهج معدلة: على أي أساس..؟!
التغييرات التي طرأت على المناهج الدراسية لم تكن مفاجئة، ولكنها كانت صادمة، فعلى امتداد السنوات الماضية تصاعدت المطالبات باجراء تعديلات على بعض مناهجنا الدراسية، وكنا نتوقع ان تبدأ وزارة التربية والتعليم بتشكيل " ورش " من الخبراء لاجراء مراجعات شاملة لهذه المناهج بحيث تخرج بمناهج جديدة تتناسب مع مرتكزات فلسفة التربية والتعليم التي اعتمدناها ونص عليها نظام التعليم في الاردن، كما تتناسب مع حاجات مجتمعنا وخصوصياته ومع مستجدات العصر ومتطلباته ايضا .
لكن ما حدث كان صادما من وجهين : احدهما ان هذه التعديلات انصبت فقط على مناهج التربية الاسلامية والوطنية واللغة العربية والتاريخ، فيما ظلت المناهج الاخرى كما هي، مع انه يفترض ان يعاد النظر في كافة المناهج وفي مقدمتها المناهج العلمية، وان تكون هنالك ثمة معايير واضحة " للتعديل "وأسباب موجبة له ايضا، اذا كان المطلوب من ذلك هو اعادة الاعتبار للعقل والتفكير النقدي والانفتاح على مصادر المعرفة الحديثة وتخليص الطلبة من ارث الحفظ والتلقين، لكن ذلك – للاسف – لم يحدث، وانما اعتمدت التعديلات على منطق الالغاء والشطب والاحلال، فيما بقيت " عقلية " المنهج بلا تغيير .
اما الوجه الاخر للصدمة فهو ان موضوع التعديل اختزل فقط فيما يتعلق بالدين، فقد تم حذف بعض الصور القرانية والاحاديث النبوية والعبارات والرموز الدينية من بعض المناهج، وفهم من سياقات هذا الحذف ان المقصود هو مواجهة التطرف ومحاولة " علمنة " المناهج، لكن حين ندقق فيما جرى نكتشف ان المحذوفات والنصوص البديلة المضافة، لا علاقة لها بالتطرف على الاطلاق، فهل من التطرف ان يكون ابن بطوطة حافظا للقرآن ومدرسا للعلوم الدينية، او ان يكون المسجد في الاسلام مكانا للدراسة، وهل نواجه التطرف بمجرد تغيير صورة امرأة ترتدي حجابا باخرى غير محجبة، ثم ان السؤال الاهم من ذلك كله : هل دخل علينا التطرف حقا من هذه النصوص الدينية ؟، وهل حذفها سيحل المشكلة، وبمعنى اخر هل الدين هو مصدر التطرف او ان فهم البعض له هو السبب، وبالتالي هل المطلوب هو حذف النصوص ام اعادة تقديمها بفهومات جديدة تتطابق مع روح الدين ومقاصده، ومع ادوات البحث والتفكير المعاصرة .
حين ندقق اكثر في مبررات الصدمة نجد ان هذه التعديلات جاءت في سياق حملة قادها بعض " العلمانيين " المتطرفين ضد " تديين " المناهج ( وصفها بعضهم بالداعشية)، وصلت الى انتقاد " الدين " نفسه والمطالبه بحذفه من الكتب الدراسية واسبداله بدروس في الفلسلفة والفن، كما نجد ان عملية التعديل تمت في غرف مغلقة، ولم تخضع لاي نقاش عام . كما انها لا تنتسب الى "اب” معروف ولم نسمع احد يدافع عنها؛ ما القى عليها ظلالا من الشك والريبة، ودفع البعض الى اعتبارها استجابة لضغوطات مختلفة، وليست استجابة لمطالب محقة وضرورية ايضا .
هذه المطالب المحقة تأخرنا عن الاصغاء اليها منذ اكثر من ثلاثين سنة على الاقل، وقتها برزت في العالم فكرة " تعليم التفكير " كرد على سؤال : كيف نفكر على نحو افضل ؟ وقد اعتمد كمنهج للتدريس في اكثر من ( 60) دولة في العالم، (ليس من بينها اي دولة عربية ) وهذه الفكرة تركز على انه ليس كل تفكير جيد في محصلته، وبالتالي لابد من تعلم التفكير الجيد واكتسابه بالمهارة .
ما فعلناه بالطبع، كان بعكس اتجاه هذه الفكرة تماما، فعملية الشطب التي استهدفت بعض النصوص الدينية ستدفع الطلبة واباءهم الى البحث عنها في مصادرها، وسيفهونها كما يشاؤون، كما ان منطق الالغاء الذي تعرضت له نصوص بعينها لا علاقة لها بالتطرف او بعدم التسامح، سيفهم في سياق " تخفيف " الشخصية والغاء ملكة التفكير لديها، او في اطار " حرب الافكار” ذات السمعة السيئة التي روجت لها بعض الدول منذ عقود.
بدل ان نستعين بفكرة تعليم التفكير الجيد لاعداد اجيال من الشباب يمتلكون ملكة النقد الصحيح، ويتعاملون مع مجتمعهم بشكل ايجابي، ويتكيفون مع الاحداث التي تحيط بهم، ذهبنا الى العنوان الخطأ باجراء تعديلات تثير مخاوف الناس، وتستفز مشاعرهم الدينية، وتتعامل مع ابنائنا وكأنهم مشاريع تطرف، لا يمكن الاسثمار فيهم الا بعد " قلعهم " من تربتهم، واعادة زراعتهم بتربة اخرى لا علاقة لهم بها أبدا.