الانتخابات واستمرار تنامي فجوة الثقة
د. حسن البراري
جو 24 :
أحسب أن للانتخابات البرلمانية التي جرت في العشرين من الشهر الجاري مذاقا خاصا لسببين لا ثالث لهما: أولا، مشاركة الاخوان المسلمين وبقوة في الانتخابات (بعد مقاطعة آخر دورتين) الأمر الذي كان من الممكن أن يرفع من نسبة الاقتراع التي جاءت متواضعة جدا بشكل يعكس جليّاً انعدام ثقة الشارع الأردني بالبرلمان كمؤسسة كانت من المفروض أن تحقق معادلة توازن السلطات. وثانيا، جرت الانتخابات بعيدا عن الصوت الواحد الذي بقي الشماعة التي علقت عليها "المعارضة" ضعف الحياة السياسية في المملكة.
اللافت في الانتخابات ليس فقط انعدام البرامج الحقيقية التفصيلية لدى الغالبية الساحقة من المترشحين ولكن هناك مسألة أخرى في غاية الأهمية، فالشارع الأردني لم يأخذ الانتخابات على محمل الجد بدليل تواضع نسبة التصويت (٣٧٪)، فلم تتجاوز نسبة الاقتراع في العاصمة عمان عن ٢٢٪ ممن يحق لهم التصويت وكذلك انخفضت النسبة في المدن الكبرى مثل الزرقاء وإربد.
استنكاف الأردنيين عن التصويت له ما يبرره من وجهة نظرهم، فوجود البرلمان وغيابه سيّان ما دام أن هناك مركزاً أمنياً سياسياً يقود البلد في أي اتجاه يريد، فالبرلمانات السابقة أخفقت بامتياز في كبح جماح الحكومة من الاستمرار في مسلسل افقار الاردنيين إذ تحولت حكومة عبدالله النسور على سبيل المثال لا الحصر إلى مركز جباية لا هم لها سوى ابتداع وسائل جديدة لفرض الضرائب. كما أن الغالبية الساحقة من اعضاء البرلمان في الدورات السابقة انفصلوا عن واقع الحياة الأردنية وانحازوا لمصالحهم الضيقة التي تطلب تحقيقها امتثالا غير مسبوق لكل ما هو رسمي. بمعنى آخر، قدم النواب في المجالس المتعاقبة مثالا سيئاً ما حوّل المجلس برمته إلى سبب من أسباب تفشي حالة من الاحباط الوطني وأضعف من قدرة الدولة والنخب على حشد التأييد وتعبئة الشارع واقناعهم في جدوى العملية الانتخابية. وما استعانة الدولة بدائرة الافتاء إلا مؤشر على معرفة الدولة المسبقة بأن الأردنيين لا يثقون في المجلس ولا في العملية الانتخابية.
لكن ومع ذلك هناك نقاط مضيئة في الانتخابات الحالية، فالانتخابات كانت إلى حد كبير نزيهة ولم يعكر صفو العملية برمتها سوى عمليات شراء الأصوات التي تفشت ولم تتمكن الدولة من وضع حد لهذه الظاهرة السيئة، وربما على الدولة أن تفكر في اجتراح طرائق جديدة لمكافحة عملية شراء الأصوات لأن كثيرا من النواب الذين استخدموا ما يسمى ب "المال السياسي" سيكونوا أنفسهم عرضة للبيع وسيقبلون بمقايضات مع السلطة التنفيذية لتمرير كل ما يلحق ضررا بمصالح المواطن العادي. فهولاء لا يشعرون أن الشارع هو مصدر شرعيتهم حتى ياخذوه بالحسبان وإنما ارصدتهم.
ثانيا، هناك ما يزيد عن أربع وأربعين نائب فشلوا في الانتخاب وهذا دليل بأن الشارع يلفظهم لاداءهم السيء، وربما ينبغي التركيز على هذه النقطة لعل النواب الحاليين يتعظوا ويضعوا مصالح الشعب والدولة في الحسبان عوضا عن دس رؤوسهم في رمال الحكومة والمركز الأمني السياسي.
بكلمة، لا يمكن المراهنة على المجلس الحالي في استعادة ثقة المواطن الأردني في هذه المؤسسة الهامة، فبعد مرور أكثر من عقدين من امتثال المجالس المتعاقبة للحكومة وعجزها عن وضع حد لتغول الحكومات فإن معجزة فقط يمكن لها أن تساعد المجلس الحالي على تغيير الصورة النمطية السلبية عن المجلس والنواب معا. وينبغي على الدول العميقة في الأردن التفكير ملياّ في أبعاد استمرار تزايد فجوة الثقة بين المواطن والمؤسسات الرسمية. فالاستقرار يستلزم أن نولي اهتماما بالغا لهذه المؤسسات ومكانتها عند الاردنيين.