الحقيقة الغائبة في الإعلام العربي
برفعه سقف الحريّات الإعلامية في أكثر من ساحة عربية كانت تسبّح بحمد "الرئيس–الرمز"، صفقنا طويلا، وبحرارة، للربيع العربي الذي جاء، كما لو أنه يعيد ترتيب البيت الإعلامي العربي على وجه الخصوص، فضلا عن مهمته الرئيسة في إشاعة أجواء الحرية والعدالة والمساواة.
ولكن، وبعد عامين من انطلاقة الشرارة الأولى لذلك الربيع، وبعد سقوط أنظمة عربية عديدة، ووجود أنظمة أخرى تترنح، نكتشف أن الحرية غائبة، والعدالة غير متحققة، والمساواة ما تزال مطمحا شعبيا في جميع البلدان العربية.
ومسألة أخرى لا تقلّ أهمية عن التجليات تلك، هي تراجع الحرية الإعلامية لدى وسائل مؤثرة، بعد أن تبنّت أجندات سياسية تخالف شعاراتها المطروحة علنا للناس، لتصبح تابعة لتلك الأجندات، تدافع عنها بكل ما أوتيت من كوادر وأموال.
خلال اندلاع الثورات الشعبية في تونس ومصر وليبيا واليمن، لم تكن هناك فجوة كبيرة في التغطية الإعلامية للوسائل المؤثرة، رغم بعض "التعتيمات" و"الاصطفافات" الهامشية التي "اقترحتها" بعض الفضائيات. ولكن الحدث السوري، وعلى غير ما هو متوقع، استطاع أن يقسم الإعلام العربي المؤثر إلى فريقين: مغيِّب لوجهة نظر النظام الرسمي السوري، أو مغيِّب للثورة.
من شعار "الرأي والرأي الآخر" الذي تتبناه قناة "الجزيرة" القطرية، وشعار "الواقع كما هو" لقناة "الميادين" بقيادة الإعلامي العربي غسان بن جدّو، نستطيع أن نتبين الهوة العميقة التي تفصل بين فريقين سياسيين متنافسين على المتابع العربي. ورغم تنافسهما، إلا أنهما اتفقا على المبدأ عينه: التضليل الإعلامي.
الأولى انقلبت على شعارها ورمت به بعيدا عنها. أما الثانية، فقد ولد شعارها ميتا؛ إذ إنها أنشئت في ظروف "صعبة"، ويريد لها "مهندسوها" أن تحمل وجهة نظرهم التي أخذت مساحتها في وسائل الإعلام تضيق وتكاد أن تختفي. لذلك، تبنت القناتان، وبغير اتفاق، المثل الأفريقي القائل: "إلى أن تستطيع الأسود رواية قصصها، فإن حكايات الصيد ستظلّ تمجد الصياد".
إنه مَثَلٌ يُستحضر دائما في دورات التدريب الصحفية لفهم أنماط الانحياز في وسائل الإعلام المختلفة، وهي أنماط حاضرة بقوة في كلتا الفضائيتين. لذلك، اختارت كل قناة "صيادها"، وبدأت بتمجيده دون سواه، وأحيانا بعيدا عمّا هو موجود في الواقع.
وإذا كان تعريف الانحياز هو "مجمل الممارسات الإعلامية، العمدية وغير العمدية، الصادرة عن القائم بالاتصال، الفرد والمؤسسة، والتي تؤدي إلى إحداث تأثيرات معينة في السياق العام للرسالة، بما يخل بموضوعيتها ونزاهتها"، فإن "الجزيرة" تكاد تغيّب أي وجهة نظر للنظام الرسمي السوري، كما أنها تعمد إلى انتقائية مدروسة في عرض الأخبار والصور الخاصة بسورية.
أما "الميادين"، فتكاد تكون صورة طبق الأصل عن شقيقتها، غير أنها تنحاز إلى الجانب الآخر من المعادلة، وتحاول الربط بين النظام السوري وبين حلفائه الداعمين له في المنطقة؛ حزب الله وإيران. وفي سبيل ذلك، "تتجاوز" القناة عن كثير من الحقائق الموجودة على أرض الواقع الذي يفترض أنها تصوره كما هو.
بين هاتين الفضائيتين اللتين تمتلكان جمهورا عربيا عريضا، تغيب الحقيقة تماما، وتتبدى السياسة في أبشع صورها وممارساتها، حين تجعل من الإعلام مزوّرا للواقع والوعي، بدلا من أن يكون عامل إثراء وتثقيف وتوعية!
(الغد)