مقاطع من حياة بعيدة
كان ذلك منذ زمن بعيد. كنت دون الخامسة عندما سألت أمي عن زمن ولادتي.
قالت بأنها ولدتني في عام السبعين.. وغامت عيناها بحزن غامض.
***
في الليل، قال أبي إن اليهود (زمان)، قصفوا قريتنا بالطائرات، وأنه مات (أبو سالم) و(حامد) و(زهيّة)..
عندما أويت إلى فراشي.
وجدتني أبكي ميتين لا أعرفهم، وأبحث في قاموسي الصغير عن شكل للطائرة.
***
تقرر أمي بيع (حنان).
نتحلق حول العنزة الشامية المحبوبة، ونبدأ جميعنا بالبكاء. فترد هي علينا بثغائها الحزين، وكأنها هي الأخرى اكتشفت المؤامرة.
نتوسل إلى أمي أن لا تفعل، ولكن القرار كان قد صدر. في المساء يحضر المشتري، ويقتاد (حنان) معه، فنصطف جميعنا لنلقي عليها نظرة الوداع الأخير.
ليلتها، أوينا إلى فراشنا من دون عشاء. كانت دموعنا تنساب على الوسائد لتبللها.
أحلامنا كانت تتمركز حول (حنان).. والمكان البعيد الذي ذهبت إليه.
***
يقرر أبي وينتهي الأمر، فيصبح الحلم قريبا من التحقق.
بعد أيام قليلة، تصطف سيارة (بك أب) أمام بيتنا، تنطلق ثانية بعد أن ينزل أبي منها، وعلى كتفيه (كرتونة) كبيرة.
نحضر كل شيء؛ البطارية الكبيرة، الملاقط المعدنية، والتوصيلة الكاملة.
الإثارة تبلغ أوجها، عندما تمتد يد أبي إلى مفتاح التشغيل. تنحبس الأنفاس، وتشخص الأبصار نحو الشاشة التي تبدأ بتكوين ملامح رجال ونساء، يأتون كالحلم إلى بيتنا.
أتربع أمام الصندوق العجيب، وأتلمس جوانبه المحببة. تتحشرج الأنفاس في حلقي، وتبدأ عيناي بإرسال الدموع بصمت.
***
تحضر إلى القرية، في موسم قطاف الزيتون. تسكن بعيدا في عمان، لكنها لا تنسى بيتها القديم، وأرضها، وأشجار الزيتون.
نهرع إلى (أم يحيى)، ونقرع بابها الأزرق، لنعرض عليها خدماتنا غير المجانية، ونبدأ بالقطاف. المقياس علب السمنة؛ كل علبة بقرش كامل. يكون إغراء (القطّين)، أحيانا، أشد، فنستبدل قروشنا به، ونجلس فوق الصخور، نتلذذ بأكله.
في المساء، نعود إلى بيوتنا منهكين، ونتطلع للصباح الآتي.
في نهاية الموسم، تعود (أم يحيى) إلى عمان، محملة بشوالات الزيتون. وتنكات الزيت، ونبقى بانتظار الموسم المقبل. نبقى وحيدين؛ بلا قروش، وبلا قطين.
***
نحمل الفوانيس و(اللوكسات)، ويتوجه الجميع إلى بيت (أبو خالد)، للاحتفال بزواج ابنه.
(التعاليل) ستستمر أسبوعا كاملا. فرصة نادرة للإفلات من رقابة الأهل، وممارسة ألعابنا حتى وقت متأخر، من دون اعتراض أو توبيخ.
في حوش البيت الأمامي، يصطف الرجال في حلقة دائرية شابكين أيديهم، يدبكون بفرح عفوي صادق. وفي وسط الحلقة تماما، يقف القايد، إلى جانب شاب يطوح بصوته عاليا، ويغني: "يا اللي فوق يا اللي فوق ارحم عبيدك يا اللي فوق". يرد عليه آخرون، فتشتعل الحماسة وتقطر حبات العرق عن جباه (الدبيكة)، والغبار يتصاعد من تحت أقدامهم.
أخو العريس، يدور بدلو ماء يرشه على حواف حلقة الدبكة عند أقدام الشباب، للحد من تصاعد الغبار، وتستمر الفرحة..
في الفناء الداخلي: تتعالى زغاريد النساء. الصبايا يغنين "يا زريف الطول ويا محمد علي، الله يعين اللي بهواكم مبتلي".
تأسرني الأصوات القادمة من الداخل، فأسير كالمأخوذ باتجاهها. أدلف الباب الضيق للفناء الداخلي و(أندحش) بسرعة بين الصبايا المتأنقات. الرؤوس عبر (إشارباتها)، والأذرع عارية إلى ما فوق المرفق، مشاهد لا يمكن أن تراها إلا في مناسبة كهذه.
أتشمم رائحة الجو العابقة بالعطور، فيما الصبايا يتمايلن بغنج ودلال، على إيقاع أكف الأخريات.
أدمن الجلوس بينهن، ما دام متاحا لي.. وكأنني كنت أعلم، بأني سوف أطرد من هذه الجنة، في زمان آت.
(الغد)