أمهات بلا حدود..
أحمد حسن الزعبي
جو 24 :
كان دخان الطابون يتغلغل في ملابسنا المنشورة على حبل الغسيل الممتد من زاوية «الفرن» إلى خصر شجر اللوز المر.. يصافح القمصان المصلوبة ثم يتطاير شرقاً ، في الصباح نلبسها معطرين بدخان الحطب ونذهب إلى المدارس كأرغفة طازجة ... باب الطابون مثل فم رجل مسنّ..مطلي بسناج الزمن الأسود ، ينفث دخانه المسائي بوجه الغروب فقط ليدفأ قلبه...»تبغه» خشب الزيتون ، و»قنابة» اللوز وأظافر السرو المحطّبة وفي بعض الأحيان لمالم الصناديق و «الطبليات» المكسّرة، «فرننا» لم يكن ليدمن صنفاً محدداً من الدخان ..لذا ، لكل مساء تشريني قديم رائحة مختلفة...تتبع نوع الخشب المحترق ومزاج الطابون...
في تشرين يحل الغروب باكراً مثل طلاب الصفوف الأولى ،يقصرُ النهار، والأعمال المنزلية تصبح أكثر كثافة ، قبل الغروب كانت تحضّر أمي وجبة «الوقود»الثانية للفرن ولا تغادره حتى تطمئن أن غليونه الخشبي قد اشتغل..تجمع البيض من الخم ، وتخلص أرجل بعض الدجاج من «شلبكات الخيوط»، ثم تتأكد أن أحدا من رعية الصيصان لم يتأخر عن العودة ، لتقوم بعدها بإغلاق الباب المشبك بالأسلاك المعدنية على من حضر..تذهب إلى المطبخ تشعل «اللمبة»الوحيدة ، تنخّل الطحين بالمنخل الدائري المهتريء الأطراف ،توازن خلطتها بين طحين القمح البلدي والطحين «الموحد»..تحضر عجنة الغد بيديها تلم العجين المتماسك كما تلف الطفل الوليد بلفاعه، ثم تدثره حتى يختمر..
في تشرين، كانت حبات الباذنجان المسلوقة تملأ زوايا البيت ، أحجار ثقيلة تكبس أنفاس الجيش الأسمر، يتساقط عرقها ببطء ، ثم يتم حشوها بطريقة أقرب إلى التحنيط وتخليدها في «قطرميزات» متوهجة بالزيت البلدي، ها قد تم تأمين مخزون الشتاء من المقدوس..المكبوس؛ من خيار ،لفت، جزر، فلفل ..كلها تطل بثقة من الرفوف العلوية ، وفي «الفواتي» المعتمة الرطبة .
لا يمكن ان يمضي تشرين دون أن تفتح الذاكرة على مكبوس الزيتون ،ورائحة الفلفل والليمون الحادة، قلائد الباميا ، البندورة المجففة ، أكياس الملوخية الناشفة...لم يتركن شيئاً الا وادخرن منه شيئاً للشتاء ... أذكر أن أمي كانت تجفف في أسفل «النملية» الرمان وتخبئه لفصول قادمة.. وعندما نسألها ما حاجتنا بهذا... تجيب بكلمة واحدة ومبهمة لم نكن نفهما وقتها: «للوحّامات»!! ثم اكتشفنا لاحقاً أنها كانت تخشى أن تشتهي إحدى النساء «الرمان» فترة الوحام ولا يكون موسمه ..فتدخر منه حبات قليلة علّها تلبي رغبتها.. هؤلاء أمهات بلا حدود...بعواطف بلا حدود ، في زمانهن كان البيت عامراً بكل شيء..بدءاً من دفئه الداخلي، إدارته الفطرية الحكيمة ، التفاف الأبناء، الاكتفاء الاقتصادي..البركة..
كان البيت عامراً بكل شيء لأن فيه أم هي « أمّ لكل شيء»..
في تشرين يحل الغروب باكراً مثل طلاب الصفوف الأولى ،يقصرُ النهار، والأعمال المنزلية تصبح أكثر كثافة ، قبل الغروب كانت تحضّر أمي وجبة «الوقود»الثانية للفرن ولا تغادره حتى تطمئن أن غليونه الخشبي قد اشتغل..تجمع البيض من الخم ، وتخلص أرجل بعض الدجاج من «شلبكات الخيوط»، ثم تتأكد أن أحدا من رعية الصيصان لم يتأخر عن العودة ، لتقوم بعدها بإغلاق الباب المشبك بالأسلاك المعدنية على من حضر..تذهب إلى المطبخ تشعل «اللمبة»الوحيدة ، تنخّل الطحين بالمنخل الدائري المهتريء الأطراف ،توازن خلطتها بين طحين القمح البلدي والطحين «الموحد»..تحضر عجنة الغد بيديها تلم العجين المتماسك كما تلف الطفل الوليد بلفاعه، ثم تدثره حتى يختمر..
في تشرين، كانت حبات الباذنجان المسلوقة تملأ زوايا البيت ، أحجار ثقيلة تكبس أنفاس الجيش الأسمر، يتساقط عرقها ببطء ، ثم يتم حشوها بطريقة أقرب إلى التحنيط وتخليدها في «قطرميزات» متوهجة بالزيت البلدي، ها قد تم تأمين مخزون الشتاء من المقدوس..المكبوس؛ من خيار ،لفت، جزر، فلفل ..كلها تطل بثقة من الرفوف العلوية ، وفي «الفواتي» المعتمة الرطبة .
لا يمكن ان يمضي تشرين دون أن تفتح الذاكرة على مكبوس الزيتون ،ورائحة الفلفل والليمون الحادة، قلائد الباميا ، البندورة المجففة ، أكياس الملوخية الناشفة...لم يتركن شيئاً الا وادخرن منه شيئاً للشتاء ... أذكر أن أمي كانت تجفف في أسفل «النملية» الرمان وتخبئه لفصول قادمة.. وعندما نسألها ما حاجتنا بهذا... تجيب بكلمة واحدة ومبهمة لم نكن نفهما وقتها: «للوحّامات»!! ثم اكتشفنا لاحقاً أنها كانت تخشى أن تشتهي إحدى النساء «الرمان» فترة الوحام ولا يكون موسمه ..فتدخر منه حبات قليلة علّها تلبي رغبتها.. هؤلاء أمهات بلا حدود...بعواطف بلا حدود ، في زمانهن كان البيت عامراً بكل شيء..بدءاً من دفئه الداخلي، إدارته الفطرية الحكيمة ، التفاف الأبناء، الاكتفاء الاقتصادي..البركة..
كان البيت عامراً بكل شيء لأن فيه أم هي « أمّ لكل شيء»..