إدفن.. إدفن..!!

الساعة الواحدة ظهرا .. موعد العودة لكل نازح من البيت الى الدوام او المدرسة .. ووقت المعارك الضارية في المعدة والعصف الذهني في الدماغ لتكهن (طبخة اليوم) ..
رن هاتفي لتصدر أمي فرمانا لا يمكن لأي منّا تجاهله او العمل ضده .. فرمانا يشبه الى حد ما قرارات الحكومة الرعناء الواحد تلو الاخر ..
أخبرتني بما علي اعداده ليكون الطبق الرئيسي والذي سيعرّش على سفرة الطعام لوجبة الغداء لذلك اليوم المشؤوم .. وليس هنالك من مقبلات او شوربات او اي شيء اخر فمن ميزات هذا الطبق أنه Double standards ..!! بحيث لا يحتاج لاي شيء اخر يرفده او يشاركه على السفره !!
تزامنا مع قرار الحكومة الاخير برفع الدعم عن المحروقات وانتفاضة الشعب ضد القرار قررت انا الاخرى ان اتصدى لقرار أمي .. ورفعت شعار الحراك (سلمية سلمية) .. فرحت انشدها لتغيير الطبخة وراحت هي تعدد لي الاسباب التي دفعتها لانتقاء هذا الصنف .. كما فعل رئيس الحكومة حين لم يبقي على قناة الا وحل عليها ضيفا ليبرر للشعب قرار رفع الدعم .. !!

أذعنت لقرارها .. فالسلمية لم تجدي والعنف لم يكن مسموحا به في تلك الدويلة الصغيرة .. وحينها تذكرت قصة طريفة :
(يحكى أن أبا قرر دفن اولاده لعدم قدرته على اطعامهم .. وهو يفعل فعلته مر به جاره فناداه ما الذي تفعله قال : بدفن اولادي مش لاقي اللي أطعميهم .. فرد جاره مستهجنا : ول يا زلمه .. عدس .. ما عندك عدس .. هنا رفع احد الاولاد رأسه وقال لأبيه : يابا .. إدفن ادفن ) ...!!!

لم تعد شوربة العدس الطبق المفضل للشعب الاردني في فصل الشتاء فحسب .. بل أراها ستحل محل المنسف لتكون الطبق الاول في البلد ..
أمي كما الحكومة صرحت بأن لا شأن لقرار رفع الاسعار باختيارنا لشوربة العدس لتكون الطبق الرئيسي لهذا اليوم بل اعتبرت الجو الشتوي البارد يلزمه دفء حساء لذيذ وليس ألذ من حساء العدس !!

أنا التي طوال عمري السابق لم اتشرف بتذوق حضرة حساء العدس أجدني مضطرة اليوم للقبول به والنظر اليه بعين الرضى والكمال .. وبدون اية رشاوي او مكافئات .. تلك التي كان ابي يدفعها لتصل الى عشرة دنانير ليشجعني على ان اذوق شوربة العدس ولو مرة وفي كل مرة كنت اقابل عرضه بالرفض التام .. أما اليوم فالعشرة دنانير التي خصصت للمكافئة ستذهب ثمنا لجرة الغاز التي سأطهو عليها شوربة العدس !!

رغم أنني وجدت الرشفة الوحيدة من حساء العدس لذيذة .. فهي تبقى ألذ من طعم الفقر والجوع المنكهان بالاستعباد وسياسة التفقير والتجويع .. لكنني لا زلت كلما ذكرت شوربة العدس اشمأززت وتذكرت تلك الحكاية (إدفن إدفن) ..!!