البذخ والاستهتار بالمال العام…!
التجاوزات التي تضمنها التقرير السنوي لديوان المحاسبة 2015م الذي صدر أخيراً لم تكن مفاجئة، فعلى امتداد السنوات الماضية تكررت هذه التجاوزات بشكل او بآخر، لكن اللافت ان معظم هذه التقارير غالباً ما تدرج في "الأرشيف” او تستخدم فقط لغايات بروتوكولية حين تسلم للحكومة او لمجلس النواب، فيما يتناولها الاعلام بمنطقة التشهير أحيانا او الاستفزاز أحيانا أخرى.
التقرير الأخير جاء في توقيت "حساس” حيث يمر بلدنا بأصعب ظرف اقتصادي، وينتظر المواطنون عاماً من "شدّ” الاحزمة على البطون بعد او وعدتهم الحكومة في الموازنة بتوفير نحو مليار دينار من جيوبهم، وحيث يتكرر السؤال عن ملفات الفساد التي طويت، وعن جدوى ان يتحمل الناس ضريبة إنقاذ البلد من العجز والمديونية فيما المحظوظون من طبقة بعض المسؤولين يتمتعون برواتب ومكافآت فلكية، وفيما تجاوزات الدوائر الحكومية – كما أشهرها ديوان المحاسبة- تتصاعد ولا تجد من يسألهم او يحاسبهم عليها.
أسوأ ما تتضمنه نوعية التجاوزات التي سجلها التقرير الأخير هو حالة البذخ والاستهتار بالمال العام التي يعيشها بعض المسؤولين الذين آمنوا العقوبة فأساؤوا التصرف، والا كيف يمكن لرئيس جامعة ان يصرف لنفسه مكافآت بعشرات الالاف دون وجه حق، او لمسؤول ان يقرر تعيين خبراء ومستشارين برواتب فلكية دون ان يقوموا باي عمل، او لموظف عام ان يسدد فواتير "هاتف” بالآلاف على حساب الخزينة، كيف يمكن لجامعات تعاني من العجز ولا تستطيع ان تدفع رواتب موظفيها ان تغامر بشراء سيارات بمبلغ (1.2) مليون دينار في عامين، والمشكلة ان كل هذه التجاوزات التي يتكرر بعضها كل عام لا تجد من يأخذها على محمل "المحاسبة” لان اقصى ما تفعله الحكومة هو ان تطلب من هذه المؤسسات التي ورد ذكرها في التقرير "إيضاحات” من اجل تصويب أوضاعها.
ربما يعتقد البعض ان هذه التجاوزات تبدو صغيرة مقارنة لحجم أجهزة الدولة الكبير، او مقارنة بملفات "فساد” كبرى مرّت كالسحاب خلال السنوات الماضية ونجا أصحابها من المحاسبة، هذا صحيح، لكن يبقى الفساد سواء اكان صغيراً ام كبيراً مرفوضاً، لأن من يتجاوز على المال العام بدنانير قليلة يمكن ان "يلهف” الملايين لو كان في موقع يسمح له بذلك.
كلفة الفساد والتجاوزات على المال العام، لا تتعلق فقط بما تخسره الموازنة من أموال، ولا ما تخسره من "سمعة” لبعض المؤسسات التي يفترض ان تقدم نموذجاً أفضل في النزاهة والاستقامة، وانما ايضاً بما تشكله هذه التجاوزات من "استفزاز” لمشاعر الناس الذين نطالبهم ان يصبروا ويتحملوا، وان يدفعوا من "مداخيلهم” المتواضعة ما عليهم من التزامات، او ما يفرض عليهم من ضرائب.
ما تفعله التجاوزات حين تشهرها مؤسسة معتبرة كديوان المحاسبة ينعكس أيضا على قيم مهمة تتعلق بانتماء المواطن لبلده وحرصه على موارده والتزامه بقوانينه، وينعكس أيضا على مواقفهم من الحق العام والسلوك العام والمزاج العام ايضاً.
ذلك انه حين يشعر الناس بانتصاب موازين العدالة على مسطرة واحدة يقف امامها الجميع، مسؤولون ومواطنون، وحين يطمئنون الى ان حرص من يجلسون على مقاعد "السلطة” والقرار على المال العام لا يقل عن حرصهم، عندئذ لن يترددوا بالتضحية من اجل بلدهم بكل ما يملكون، ولن تأخذهم "موجات المظلومية” والغبن الى الانتقام من أنفسهم او من مجتمعهم.
بقي لدي نقطتان: الأولى ان تقرير ديوان المحاسبة يفتح امامنا فرصة للتذكير بضرورة إعادة هيكلة الجهاز الحكومي، وتطوير الإدارة العامة في بلدنا كما انه يفترض ان يدفعنا الى إعادة النظر في أسس تعيين "المسؤولين” خاصة الذين يسقطون بالباراشوت وبلا أسس ومعايير من الكفاءة والاحقية ناهيك عن تمكين ديوان المحاسبة من حق المحاسبة على تجاوزات الدوائر الحكومية بإعطائه صفة الضابطة العدلية لان دوره وفق القانون لا يتجاوز دور "الراصد” او المؤرخ المؤرشف، ناهيك عن ضرورة قيام مجلس النواب بدوره في مناقشة هذه التقارير الذي لم يناقش منها الا تقريرين فقط، اما النقطة الثانية فتتعلق بأخذ ما يصدر عن ديوان المحاسبة من تقارير بعين الاعتبار عند "قياس” أداء المؤسسات او تجديد العقود والتعينات للمسؤولين وتدوير المناصب بينهم، ذلك انه لا يعقل ان يظل هؤلاء المسؤولون في دائرة "الحظوة” بعد ان انكشفت تجاوزاتهم، كما لا يجوز ان تمر تجاوزتهم دون محاسبة، وان يظلوا يمثلون علينا دور "الابطال”.