الفرصة العراقية
تولد الأفكار الكبيرة عادة في الأزمات الكبيرة. وربما يكون هذا هو الوقت الملائم للتفكير بالمشرق ووحدته ومستقبله. يمكننا أن نتصوّر إطلاق تيار فكري سياسي يسعى نحو مشروع ينضّد الدول المركزية الثلاث في الهلال الخصيب، سورية والعراق والأردن. عندها سوف ينشأ سياق يستوعب العصبيتين المحليتين، اللبنانية والفلسطينية. هل فكرت دمشق ــ وأفضل التفكير هو الذي يحدث تحت النار ــ في استنقاذ نفسها بمشروع يتعداها إلى حدودها الحضارية؟ إلى ذلك، سنفكر الآن بالممكن الذي يقع في قلب ذلك المشروع، أعني استعادة ما انقطع من العلاقات الخاصة بين العراق والأردن.
بين المجابهة العدائية للخليج وتركيا، والصداقة الباهظة الكلفة لإيران، والاحتمالات الصعبة لمستقبل سوريا، يلوح الأردن، مرة أخرى، كمجال حيوي للحضور العراقي. وهو أفق يحتاج من بغداد إلى القليل من الخيال السياسي والكثير من التبصّر الاستراتيجي. يمكن للعراق، بإقدامه على تجديد شامل لعلاقاته مع الأردن، أن يضع اللبنة الأولى ليس فقط في دوره الاقليمي المستقل اللاحق، وإنما، أيضاً، في إعادة بناء وحدة نسيجه الوطني.
تجديد المنحة النفطية العراقية للأردن (وفتح بوابة التعاون الاقتصادي على أسس تفضيلية) سوف ينقذ الأردن المأزوم اقتصادياً ومالياً، من الإفلاس. لكن الأهمّ أن نكون بإزاء تجديد العلاقات الثنائية في سياق جيوسياسي، يحافظ على الطابع السلمي للصراع السياسي في الأردن، ويحرره من الضغوط الخليجية، ويرسّخ حياده الإيجابي نحو الصراع في سوريا، ويعزز قدرته على مواجهة التحدي الإسرائيلي المتجدد الأطماع بمناسبة حالة التفكك العربي والضعف الأردني، ويتلافى، خصوصاً، الاحتمالات الأسوأ لانهيار الأوضاع غربي النهر.
سوف يستردّ العراق كلفة الانفتاح على الأردن من خلال منفذ آمن محايد سياسيا لتصدير النفط ( عبر أنبوب يزود الأردن بحاجاته ويؤمن الصادرات النفطية عن طريق ميناء العقبة) ومن خلال تفعيل الحيوية الاقتصادية الثنائية في عدة مجالات من إعادة الإعمار في العراق والاستثمار السهل العالي المردود في الاقتصاد الأردني. ففي النهاية، سوف تنتظم العلاقات الاقتصادية بين البلدين على أسس المنفعة المتبادلة، لكن الكسب الأساسي لكل من بغداد وعمان، سيكون في المجال الجيوسياسي: فبإنقاذه الأردن وتجديد العلاقات الاستراتيجية معه، سوف يخرج العراق من مأزق الغرق في السياسة المحلية، ويعيد تركيبها وفق دوره الإقليمي المتجدد، عبر الأردن، نحو فلسطين، وبهما في مواجهة الخليج وتركيا. وهو نفسه الإطار المناسب لتكوين تحالف إنقاذ سوريا.
هل تتوقع بغداد أن تكون المبادرة من قبل الأردنيين الواقعين في شبكة معقدة من الضغوط القاسية والمربكة؟ بغداد هي التي في موقع المبادرة هنا. وقد بادرت، إنما لا وقت لانتظار المشاريع الكبرى التي نتمنى انجازها في مدى معقول. المطلوب الآن أن تحزم القيادة العراقية أمرها، وتقرر منح الأردن سعراً تفضيلياً يغطي احتياجاته النفطية ووضعاً تفضيلياً للتعاون الاقتصادي، عندها، ستتكون، النواة اللازمة لشبكة متعددة المستويات من العلاقات الجيوسياسية الثنائية التي يحتاجها البلدان في المدى المنظور.
مرة أخرى، أذكّر العراقيين بأن المشروع الوطني العراقي لا يُدار في الإطار الضيق للمعادلات البرلمانية والإدارية في بغداد، ولا في الصراعات الداخلية المذهبية والاتنية، بل يُدار استراتيجياً وعلى مستوى الإقليم، وبوابته الممكنة، تقع، اليوم، في عمان.
بالمقابل، أذكر الأردنيين أنهم ليسوا بإزاء فرصة مساعدات طارئة، بل بإزاء فرصة استراتيجية للنهوض الاقتصادي والسياسي من خلال إعادة إحياء التحالف العراقي الأردني. هنا، مجال واسع لحركة الدبلوماسية الشعبية الأردنية. هيا إلى بغداد، سياسيين ومثقفين وإعلاميين ومنظمات مدنية واقتصاديين الخ فليس في العراق اليوم زعيم يقرر، وإنما شبكة قوى يتوجب الاتصال بها جميعا، والتواصل معها، وإقناعها بالبوابة الأردنية.
(العرب اليوم )