الكاتب والمزاج العام..!!
الصورة المثالية "المتخيلة” للكاتب في ذهن القارىء هي أنه يمثل "ضمير المجتمع”، يتماهى مع قضاياه ومشكلاته، ويعبّر عنها بصدق وأمانة، وينحاز إليه مهما كانت الاضطرارات والاكراهات.
لكن الصورة الحقيقية قد تبدو خلاف ذلك، إذ يمكن ان تختلط لدى الكاتب أولويات الذاتي مع الموضوعي، أو ان يخضع "لاغراءات” المجال العام، او ان يقع في محذور "الانحياز” لطرف ما على حساب "الحقيقة” وعندها تتزعزع ثقة القارىء به، ويتحول من وظيفة "ناطق” باسم الضمير العام الى موظف في مجال "الهوى العام”.
أحيانا أشعر بتأنيب الضمير، عندما أهرب من الكتابة عن الشأن الداخلي الى الخارج، لا لأن بعض قضايا الخارج لا تهم القارئ كما لا تهمني أيضا بل لأن لديه رغبة بمعرفة ما يدور حوله ، وهذه أولى من الاطلاع على اخبار الآخرين التي يمكن أن يجدها في صحفهم ووسائلهم الإعلامية التي وفرتها ثورة الاتصالات الحديثة، ومن المفارقات أن انتقاد السياسة الأمريكية – على عظمة أمريكا وهيمنتها – أسهل بكثير من انتقاد السياسات الداخلية في معظم اقطارنا العربية ، وهذا مفهوم بالطبع ، لكن مهمة الكاتب لا تتجاوز التعبير – بقدر الإمكان – عن المزاج العام فيما تبقى مهمة الناشر الأهم في موازنة ما يمكن أن ينشر وما لا يمكن أن يخرج إلى الناس، وهي مهمة ليست سهلة بالطبع وتخضع للتقدير والموازنة تبعا للظروف والمزاج العام..والاجتهاد ايضا.
الكتابة في الشأن العام مسألة "صعبة” ومرهقة، وتحتاج الى رؤية واستبصار، كما تحتاج الى "فطنة” وحكمة، فليس كل ما يعرف يكتب ويقال ولا كل ما يكتب ويقال حان وقته وحضر اصحابه، كما ان وظيفة الكاتب ليس "الجهر بالسوء” وانما توظيف الكلمة "الطيبة” لتغيير الواقع نحو الافضل، والموازنة بين مَضَنّتي "الستر والاشهار” فاذا احس بان "ظلما” وقع فالأولى ان يواجه على قدر استطاعته.
لم تصل حرية الإعلام في عالمنا العربي الكبير الى الحد الذي يسمح للكاتب أن يعبر بصراحة عما يؤمن به من أفكار ، او ان يواجه بالانتقاد ما يراه من تجاوزات على صعيد السياسات العامة ، وهذه الحقيقة يدركها القارئ ايضا.. وربما تسعفه بتفهم أو قبول ما يكتب او ينشر حين لا يصل الى ما يتمناه من جرأة في معالجة الهم العام ، فهو هنا لا يعدم المبررات والاعتبارات التي تفرض عليه الكتابة ، وتمنع الكاتب من الدخول في صميم قضايا مجتمعه وما يحدث داخله من سجالات ومخاضات ومشكلات.فعند غياب "الحرية” لا مجال ابدا للابداع، ومن حق الكاتب عندها على القارىء ان يحكم عليه وفق منسوب الحرية المتاحة، كما ان من واجب الكاتب ان يظل ملتزما بعهده مع القارىء وان لا يخضع فان استطاع ان يعبر عما يعتقده فليفعل، وان وجد الابواب امامه مسدودة في قضية ما فليكتب.
المهم هنا بالنسبة للكاتب أن يحافظ على رؤيته ويبقى مخلصا لأفكاره وقرّائه أيضا، وهو بالطبع لا يعدم طريقة ما للتسلل الى جمهوره حتى في أصعب الظروف، وبالتالي فلا يجوز له أن يشعر بالإحباط، كما لا يحق له ان يلتمس العذر للاستقالة من الكتابة.
رضا الناس في الغالب بالنسبة للكاتب غاية لا تدرك، لكن رضا الضمير هو الأصل، وأعتقد أن القارئ ذكي بما يكفي للحكم على نزاهة الكتابة واستقامة الكاتب، والاستقامة هنا أدق واشمل من الشفافية والموضوعية فهي تجمع بين كل هذه القيم ضمن إطار أخلاقي يتسامى بالشخص الى ما وراء المجال الخاص ومصالحه واهوائه المعروفة.
أخطر ما يتعرض له الكاتب هو (قابلية)الانحياز، أو الوقوع في فخ الاقصاء الذي يجعله يشيطن الآخر ، واسوأ ما يمكن ان تقرأه هو الكتابة التي لا ترى إلا بعين واحدة ولا تؤمن إلا برؤية واحدة، ولا تقيم وزنا للتعددية والاختلاف، ومفهوم التعددية هنا لا يتعلق فقط بتباين وجهات النظر بل بمصداقية ما يكتب سواء كنت معه أو ضده.
في اكثر من نموذج عايشناه على مدى السنوات الماضية ، فرضت الاعتبارات التقليدية ذاتها على كل ما يمكن ان يقال او ينشر ، واصبحنا امام خطاب أحادي الجانب ، وهو خطاب مسكون بالخوف والارتباك وعدم القدرة على الاقتناع او الوصول الى الناس ربما تكون الاعتبارات مفهومة لمن يقرأ بوضوح ذبذبات السياسة العامة وخياراتها لكن المشكلة كانت في الإخراج ، هل كنا حقا نعدم مهارات وتقنيات واشخاصا أكثر كفاءة وقدرة على اخراج الحدث؟ ربما ، لكن الإعلام كناقل وليس كصانع ، لا يتحمل مسؤولية الإخفاق بقدر ما تتحمله جهات اخرى، ومع ذلك لا يسلم الكاتب – والإعلام عموما – من اللوم والانتقاد والإحساس بالمرارة وتأنيب الضمير.
بالمناسبة، سبق لي أن اشرت الى هذه الملاحظات في اكثر من مقال، لكنني أعيدها اليوم كي يطمئن القرّاء الأعزاء بأن الكاتب(وكذلك الإعلام في معظمة) لم يتنازل عن مهمته ودوره ولم يستقل من واجبه الذي كلفه به المجتمع، فحتى وإن كتب الكاتب عن الصين فقلبه ينبض بالوطن.