(الليلة التاسعة ما قبل الأخيرة).. لغة مسرحية تتأسس على (الذاكرة الإنفعالية)
تناولت مسرحية «الليلة التاسعة ما قبل الأخيرة»، التي عرضت مؤخرا على مسرح البلد، العلاقة بين المثقف والسلطة بمختلف أوجهها، في فترة ما قبل «الربيع العربي»، وما بعده، وفق شكل مسرحي، تأسس على تقنية الذاكرة الإنفعالية، انشغلت أنساق الأداء البصرية والسمعية في تحقيقه.
عرض محمد بني هاني المسرحي الجديد لجهة تأليف النص والرؤية، وقدمتها فرقة جسد لفنون الأداء 2012، بدعم جزئي من الصندوق العربي للثقافة والفنون-آفاق.
هدفت لوحات ومشاهد المسرحية، إلى تبيان مدى فداحة الظلم الواقع على المثقف، من قبل النظام السياسي الشائع عربيا؛ لجهة العبث في نتاجاته، واضطهاده الشخصي، ضمن أجواء التضييق على الحريات العامة، وعدم تقبل التنوع في الاختلاف بالرأي، وإلى اختيار طريق واحد فقط لا ثالث لهما ضمن خيارات المثقف المتاحة؛ ألا وهي التبعية أو الإقصاء والتهميش.
الحكاية تحدثت عن شخصية «الراوي»، وهو فنان مسرحي تعرض للاعتقال السياسي في شبابه، بسبب ما يعتنق من أفكار يسارية، وآراء تنحاز للإنسان وحريته في التعبير ورفضه لكافة أشكال العبودية والاستبداد والقمع، وهو الشخصية الأساسية، التي تتشكل وتدور من حولها الأحداث.
بينما طرح البناء العميق، بمختلف سياقاته المضمرة، إشكالية ومأساة «المثقف العضوي»، بمفهوم غرامشي في الدول التي تنبني سياساتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، على المفهوم الأمني، مما يجعل من هذا المثقف، حبة قمح بين حجري الطاحونة؛ السلطة العربية الرسمية، من جهة، ومن جهة أخرى الأعراف والعادات الاجتماعية، التي نبتت كالطحالب خلال الزمن التاريخي لهذه السلطة.
الرؤية الإخراجية، أنشأت فضائها السمعي والمرئي، وفق تقنية الذاكرة الانفعالية، بالرجوع بالأحداث الرئيسة إلى الوراء، قبل خمسة وثلاثين عاما خلت، حيث كانت تحضر سياسات الأحكام العرفية، في ذاكرة الشخصية الرئيسة «الراوي»، كما وصممت هذه الرؤية الشخوص الأخرى، في هذا الفضاء المتخيل، بحيث توضح طبيعة مزاج وهواجس ومواقف هذه الشخصية الرئيسة أساسا؛ فجاء أداء شخصية المرأة الراوي، التي قدمتها جويس الراعي، تمثل الحاضر في سياق الأحداث، وفضلا عن شخصية أخرى قدمتها الراعي، هي من كان يحبها قلب الراوي، وهناك شخصية «المرأة الراوية» جسدتهما غالية التكريتي، و»الراوي» في شبابه وعنفوانه قدمه عامر الدهمان، وشخصية رجل يعمل في مؤسسة أمنية قدمه معتز اللبدي، وإمرأة تعمل في نفس هذه المؤسسة الأمنية قدمتها ديما دعيبس.
وكانت جماليات السينغرافيا قوية في تأشيرها الدلالي، بفعل بساطة العلامة، وثراء تعبيرية إيحائيتها في آن، لجهة فضاء الفنان الذي تشكل على يسار الخشبة، وبما يعج من مفردات ديكورية، كمكتب وكتب وخزانة الكتب، وفضاء شخصية المرأة الراوي على يمين المسرح، وتصميم أزياء الشخوص، الذي ساعد في إظهار قسمات الشخصيات الخارجية، واستخدام أساليب الإضائة القاتمة لتتلاءم مع أجواء غرف التحقيق والتعذيب، التي تضمنتها مشاهد ولوحات المسرحية.
واشتغل الإخراج على شكل من الذاكرة الإنفعالية، تحاكي اطروحات لجوسف ليدوكس أستاذ علم النفس من جامعة نيويورك، تقوم على كشف المسارات العصبية التي بواسطتها تجعل أحد المواقف الإنفعالية، تدرك الخوف، من خلال آليات عامة من الذاكرة، تنشط وفق اضطرابات عقلية بشرية، كالقلق والرُّهاب، والهلع، وهجمة الفزع، كالتي كانت تنتاب هذا الفنان، عندما كان يحاول جلادوه، بواسطة التعذيب، دفعه إلى ما بعد حافة الجنون تارةً، وارتداد هذه المسارات تحديا ومقاومةً تارةً أخرة.
وجاءت هذه التقنية السابقة، قريبة من أنماط اشتغال جروتوفسكي في مختبراته على أداء الممثل، إذْ جعل المخرج هذا الإنفعال إشاريا يطرح الدلالة السائدة في المجتمع، بين المنظورين النسبي والتاريخي، والمتغير، والثابت، وحضور الاختلاف في الفترة التاريخية السابقة والحالية، والظرف الاجتماعي، والثقافي، والأيديولوجي، والأنظمة الإشارية الشائعة؛ أغاني الشيخ إمام، ومرسيل خليفة، فضلا عن استلهام الاستعارات والصور في مشاهد ولوحات المسرحية، كمشاهد التحقيق السياسي الكثيرة في هذه المسرحية، بحثاً عن الدلالة والمعنى من سياقات الواقع.
وجاء إنشاء الفضآت أساسا، من باب أن اندفاع الفعل الجسدي الإنفعالي بمحمولاته إلى الأمام، كرافعة أساسة في لغة المسرحية لأن الحوار المتأسس على دلالة الكلمة، يعدّ مضللا، في هذا السياق، لعدم يقينية المعاني المباشرة للّغة؛ لذا ينصرف بدلا من ذلك في التأشير بصريا، في التأسيس لنظام تواصل تتمظهر آلياته بين تقاطع والتقاء، مع ما يراه المشاهد للواقع، ومن جهة أخرى مع رؤية نص العرض لهذا الواقع، وبخاصة مشاهد التحقيق الأمني الشائعة في الأقطار العربية، والمتسمة بفيض العنف الواقع على السجين السياسي، حيث تكون إشارات الجسد المترنح ألما هي المعنى والدلالة الأساسيتين في طرح اللغة المسرحية.
(الراي )