وحيداً على الشجرة.
وعندما كبرنا أدركنا كم كنا بلهاء،فالقطاف هو مونة «الذكرى» ، والشجرة هي المكان الوحيد الذي يمكن ان يجمعنا جميعاً دون غياب قسري او اختياري ، الزيتونة مثل «الأم بتلمّ « وهي القاسم المشترك الذي يرضى الجميع أن ينزل تحت قدمه بكامل الرضا دون الشعور بالخجل أو الانتقاص..
عندما كبرنا أدركنا كم كنّا بلهاء عندما نمتهن الغياب بحجّة الكتاب، فطعم الشاي الذي كنا نشربه على حافة صخرة او تحت ظل (الكبيرة) تعجز مقاهي عمان كلها أن تنتج طعمه ،وان الضحك النقي بعد تعب واللباس الرث بعد انجاز و صدى الصوت القادم من بعيد للصغار ولسعة البرد عند الغروب ،ورائحة «ألفوجيكا» عند أول الاشتعال في غرفة العيلة..هي مزيج لا يمكن ان تذوقه ذاكرتنا من جديد مهما أحضرنا من شخوص احتياطيين..وأن «تخميش» الأغصان التي تنال من يديك ومن وجهك هي «خدوش» شهية لا تستفزّك للانتقام أو تدفعك لتقديم شكوى ، كل ما عليك ان تمسحها بكفك المغبر وتواصل «جني الزيتون» بانتقاء وتمهّل..حبات قليلة هناك تحتاج الى «سيبة» او الى برميل ، يظل يطاردك شعور بعدم اكتمال الانجاز و»تفلاية» الشجرة الا بإسقاط الحبات السوداوات المرتفعات على آخر غرة الشجرة..يتساقط الحب وتطلب من الصغار أن يلمّوه ثم تطلق زفيراً طويلاً يشعرك بالارتياح..
ياااه كيف تتقلب السنوات!!..ونحن صغاراً كنا نشعر بالإهانة اذا ما طالبنا الكبار بجني الساقط على التراب ،كنا نعتبره تكليف دوني ، فنأبى ونمسك بالعروق المثقلة بالزيتون المعلّق كالكبار ،فتنزل أمي على ركبتيها وتجني ما تسقطه أيدينا..بالأمس فعلت نفس الشيء عندما أبى الصغار ، قلت لهم..ما تسقطه أيديكم تلتقطه يداي فلا تقلقوا أمسكوا انتم بالعروق المثقلة بالزيتون فأنا لا أقوى على الوقوف..
بالأمس فقط عرفت لماذا كان يصّر ألآباء ان نبقى حولهم ، ملتفين جميعاً حول شجرة واحدة وان لم ننجز أو نساعد..لأن الشعور بالوحدة مؤلم وقاسٍ وغريب..أمس كنت وحيداً على الشجرة أحاور أصابع الزيتون المتعبة بلا نديم او شريك ، أجني الحبّات الضعيفة العطشى من غير همة ، وفي آخر النهار ألملم «تنكي» المبعثر..أنفض الغبار عن ثيابي وعن شعري وانفض سؤالاً ظل يلاحقني..»هل يتغيّر الحَبُّ» بتغيّر «الحُب» وغياب الرفاق ؟..ربما ، فلا لمعة للزيت على أصابعي هذا المساء ولا لمعة للاشتياق!..