jo24_banner
jo24_banner

مبادرة الوقف التعليمي.. نهج أصيل يحييه الرزاز

د. محمد أبو غزلة
جو 24 :
التعليم والعلم قضيتا كل دولة في العالم وهما من أهم أولوياتها لتحقيق التقدم والتنمية؛ فالأمة بلا علم هي أمة بلا هوية، فالتعليم عصب التنمية، به تقاس نهضة الأمم وتقدمها. فكلما تحسن التعليم تحسنت نوعية الفرد داخل المجتمع؛ فالتعليم يجعل الفرد قادرا على مواجهة التحديات والعقبات دون خوف أو قلق. لذلك فالأردن لا يدخر مالا أو جهدا لكي يطور التعليم، ويبنى المدارس والجامعات لتوفير التعليم للجميع، من خلال ما حققه في أهداف الألفية ، وما يسعى لتحقيقه في أهداف التنمية المستدامة (2030) ؛ لينطلق بعدها إلى تحقيق تعلم نوعي، ولكن لا يمكن أن يتحقق ذلك دون مشاركة ومسؤولية مجتمعية فعالة وتكافل اجتماعي يشكل روافع نهضة التعليم والارتقاء به.

لقد تطورت مفاهيم الوقف التعليمي والمسؤولية والمشاركة المجتمعية خلال العقود الماضية لدى الأفراد والجماعات والشركات في مختلف القطاعات العامة والخاصة حتى أصبحت تنطلق من مبادئ أخلاقية تترجم إلى سلوك حضاري يسهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الذي تعمل به؛ وذلك بتبني الشراكات والمبادرات المختلفة في مجالات التعليم والبيئة، والاحتياجات الخاصة، والتنمية المستدامة في دول العالم المتقدم ، وعلى الرغم من السبق الذي حققه العالم العربي في نظام الوقف التعليمي منذ قرون مضت، فإنه لم يستمر طويلاً في دعم التعليم في عالمنا العربي المعاصر في حين حافظت الدول الغربية على تنمية الأوقاف التعليمية على مر السنين حتى أصبحت جامعاتها ومدارسها تعتمد عليه بشكل أساسي في تمويل وتطوير التعليم،ومن أبرز نماذج الجامعات الوقفية في العالم جامعة هارفارد الأميركية التي تمتلك أكبر حجم أوقاف عالميًا، يصل إلى نحو 36.5 مليار دولار، ورسخت لذلك منذ أن تحولت إلى جامعة تعتمد على الأوقاف في عام 1870. حتى فاق عدد أوقافها 11 ألف وقف حاليًا. وتتفوق بذلك على موازنات بعض الدول العربية المعلنة في عام 2015.

وعلى الجانب الآخر في العالم العربي، نجد أن أغلب جامعاته ومدارسه العامة تعتمد بشكل شبه كلي على الموازنات الحكومية، بينما نماذج الجامعات المستندة على أوقاف قليلة بشكل عام، وفي حال تواجدها لا تتوافر بيانات متاحة عن حجم أوقافها على وجه الدقة، إلا أن هناك نماذج يمكن الاستشهاد بها في هذا المجال نذكر منها جامعة القرويين في المغرب التي تعتبر من أوائل الجامعات الوقفية في العالم وتأسست بالكامل من التبرعات. وجامعة الأزهر في مصر التي يقدر حجم أوقافها حاليًا بملايين الدولارات ولكنها ليست موجهة بشكل كامل لخدمة التعليم والبحث العلمي، وكذلك جامعة الزيتونة في تونس، وجامعة جامعة الملك سعود في السعودية في مقدمة النماذج العربية الوقفية الناجحة في الوقت الراهن، والتي يقدر حجم أوقافها بملايين الدولارات في شكل مجمعات صناعية، وفنادق استثمارية بمشاركة من شركات القطاع الخاص، إضافة إلى وجود عدد كبير من كراسي البحث العلمي الممولة من القطاع الخاص أو من بعض الشخصيات العامة والدارسين القدامى.ولكن بشكل عام، فإن حجم الأوقاف الحالي للجامعات العربية قد تقلص بشكل كبير، ولم يعد له دور يذكر في دعم العملية التعليمية، وأصبحت النماذج المعتمدة على الوقف قليلة، ولا تتوافر عنها بيانات منشورة تفيد الباحثين وصانعي السياسات.

وعلى الرغم من ذلك إلا أن مفاهيم الوقف التعليمي والمسؤولية المجتمعية والتكافل لا زالت مفاهيم قاصرة عن تحقيق أية نتائج حقيقة على أرض الواقع في مجتمعاتنا العربية وفي مجتمعانا تحديدا على الرغم من أن لديننا في الأردن تراث عربي وديني يعد مثالا حيا على مدلولات هذه المفاهيم تمثلت صورها في الوقف التعليمي الذي في إنشاء دور الكتاتيب والتبرع في الأراضي والأبنية لتكون دورا للعلم كواجب وطني من الأفراد تجاه التعليم ، حيث أن الكثير من المدارس قائمة على أرض متبرع بها، إضافة إلى أن هناك العديد من المدارس التابعة للطوائف قامت على مفهوم الوقف التعليمي، الأمر الذي يتطلب إعادة تأهيل دور فعال للوقف التعليمي في المجتمع وتوفير بيئة صالحة بكل أبعادها الفردية والجماعية وبمشاركة كل المؤسسات التعليمية،والثقافية، والإعلامية، والاجتماعية ليتم تحقيق الإيمان والصدق، ويتم زرع قيم المشاركة والمسؤولية المجتمعية والتكافل الاجتماعي إيمانياً وعملياً.

لقد جاءت مبادرة الوقف التعليمي التي أطلقتها وزارة التربية والتعليم بالتعاون مع وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية لإحياء هذه المفاهيم وتوسع مجالات الانتفاع بها ولتشكل داعم اقتصادي مناسب ومستقبلي للتعليم وهو خير ما يقدمه المجتمع للتربية والتعليم، والمتتبع للتاريخ الإنساني لجميع المجتمعات الإنسانية العربية والأجنبية يقف على ما أنتجه وحققه هذا النهج الإنساني العالمي من نجاح باهر على الصعيد التربوي والاجتماعي، لذا فإن الحاجة ماسة الآن للعودة للوقف التعليمي لاسيما وان الديانات كافة تحث على هذا النهج لما له من أثار إيجابيه على المجتمع.

ومن هنا وانسجاما مع التوجهات الملكية لتطوير التعليم وما تناولته الأوراق النقاشة جميعها وخاصة الورقة السابعة حول تطوير التعليم والإشارة الملكية إلى الشراكة والمسؤولية الوطنية والاجتماعية للأفراد والمؤسسات للمساهمة في تطوير التعليم من خلال توفير البيئة التعليمة المناسبة وتوجيه المدارس والمعاهد والجامعات لتكون مصانع للعقول المفكرة، والأيدي العاملة الماهرة، والطاقات المنتجة، وأن تكون مختبرات تُكتشف فيها ميول الطلبة، وتُصقل فيها مواهبهم، وتُنمَّى قدراتهم، بحيث تزودهم بكل ما يعينهم على استقبال الحياة، ومواجهة ما فيها من تحديات، والمشاركة في رسم الوجه المشرق لأردن الغد، "لأن بناء قدراتنا البشرية وتطوير العملية التعليمية هو جوهر نهضة الأمة" ومن هنا فإن إعداد القوى البشرية المؤهلة التي تعد أهم مورد لإنتاج المعرفة وهو الإنسان لإحداث التنمية المستدامة رسم المستقبل للأجيال القادمة لا يتم إلا من خلال التكاتف وتحمل المسؤوليات الوطنية والاجتماعية والدينية نحو التعليم من المؤسسات الرسمية والأهلية والقطاع الخاص والأفراد.

إن إطلاق مبادرة الوقف التعليمي في مجتمعنا الأردني وتوجيها لخدمة النظام التعليمي سيعود بالأثر المحمود على التربية والتعليم، وسيكون لها أثر يكاد يتداخل في جميع نواحي حياة الأمة كمشروع حضاري لا تقف آثاره عند جانب بل تمتد لتشمل النواحي الحيوية في المجتمع بل ويوفر حلاً لمشاكله الاجتماعية وأزماته الاقتصادية.

إن نجاح هذه المبادرة الإبداعية يتطلب من القائمين عليها إنشاء مجلس أو هيئة وقفية لتوجيه عملية التبرعات الوقفية القائمة أو القادمة لخدمة النظام التعليمي حتى لا تشكل التشريعات المعمول بها حاليا في أموال صندوق الوقف التابع لوزارة الأوقاف عائقا أمام تنفيذ هذه المبادرة لحين استصدار تشريع أو تعديل قانون الوقف الحالي، وأن تشكل من الوزارتين لجان عمل تقوم بتوعية وتثقيف مختلف فئات المجتمع بأهمية الوقف التعليمي والشراكة المجتمعية في دعم التعليم وأثرها على الإيجابي الروحي عليهم، كما أن عليهم القيام بتشجيع الشركات الوطنية والمصانع والمؤسسات الوطنية،ورجال الأعمال والأثرياء على تحمل مسؤولياتهم الوطنية والاجتماعية، ومحاكاة النماذج الدولية في هذا المجال، ناهيك عن توجيه الأفراد والمؤسسات الخاصة مادياً للمساهمة في إنشاء المؤسسات التعليمية وتخصيصها كأوقاف لصالح التعليم .

ونظر ما يتمتع به مجتمعنا الأردني من خصال حميدة ورغبة ودافعية وإيمان بالتعليم فإن أهمية إشراكهم في هذه المبادرة في جميع عمليات التخطيط لتطوير التعليم وبيان أهمية المشاركة المجتمعية من خلال الإسهام في تنفيذ مشاريع الخطط التنفيذية في مجال التعليم، يساعد في تبنيهم لنهج الوقف التعليمي والشراكة المجتمعية كنهج إنساني لبناء المدارس انطلاقا من تحملهم المسؤولية الوطنية والدينية.

إن تحديد مجالات العمل في مبادرة الوقف التعليمي والشراكة المجتمعية بالتعاون مع وزارة الأوقاف والمؤسسات المجتمعية وإعلانها للجميع من خلال إطلاق حملة توعوية باستخدام الوسائط والوسائل المختلفة وتنفيذ العديد من الفعاليات التربوية والدنية سيساعد في زيادة دافعية المجتمع إلى تشجيعها وتحمل مسؤولياته، وعليه يمكن اقتراح بعض الأعمال التي يمكن أن يسهم الوقف التعليمي في شمولها من مثل :

-إنشاء الأبنية المدرسية والإضافات الصفية وغرف رياض الأطفال لصالح وزارة التعليم.
-إنشاء المدارس من قبل وزارة الأوقاف وتأجيرها للوزارة بأسعار رمزية.
-إنشاء المدارس من قبل وزارة الأوقاف لوزارة التربية والتعليم على مبدأ التأجير التمويلي.
-إنشاء المرافق المدرسية( مختبرات علمية، وحاسوبية، ملاعب، صالات).
-إنشاء أبنية تجارية وتخصيص نسبة من ريعها لصاح المدارس.
-تغطية تكاليف طباعة الكتب المدرسية.
-قيام وزارة الأوقاف بتنفيذ مشاريع لخدمة العملية التعليمية مثل مشروع التغذية المدرسية والتدفئة ، وصيانة الأبنية المدرسية.
-تحويل الأوقاف القائمة وإعادة توظيفها كمدارس حسب أماكن تواجدها والحاجة إليها.
-قيام وزارة التربية بإعادة طرح فكرة القرش الخيري لدعم التعليم على غرار فلس الريف وإصدار التشريع المناسب له.
-تخصيص أراض من أرضي الوقف التعليمي لبناء مدارس بموجب سند شرعي وبنسبة لا تزيد عن 10% من القيمة لبناء المدارس.
-إنشاء صندوق خاص لإيرادات الوقف التعليمي والشراكة المجتمعية.

كما أن على المؤسسة التعليمية أن تفعل النشاطات التربوية والتعليمية من مناهج وكتب مدرسية وبيئة مدرسية بحيث تتضمن مفردات تربوية في مناهج العلوم الشرعية والاجتماعية في مقررات التعليم العام عن فضل الوقف شرعياً، وأهميته اجتماعياً، ودوره تاريخياً، وضرورته عصرياً، للمساهمة في تربية النشء وتدريبيه على تجسيد مفهوم الوقف التعليمي والمسؤولية المجتمعية والتكافل وتعويدهم على الإنفاق في أوجه الخير والعمل التطوعي ولتكن مثالاً تطبيقياً عملياً لأثر الوقف في المجتمع.

كما عليها القيام بعقد العديد من الشركات الاستراتيجية مع القطاعين العام والخاص ومع الأفراد والقيام بعقد مجموعة من الندوات والمحاضرات في الجامعات والمؤسسات التعليمة كافة لمناقشة وإبراز دور الوقف التعليمي والشراكة المجتمعية في تنمية المجتمع ورقي الأمة، وبيان آليات المشاركة، وإقامة الندوات التلفزيونية عن مبادرة الوقف التعليمي والشراكة المجتمعية، وإصدار الكتيبات والنشرات عن المبادرة وتوزيعها في الأماكن العامة الجامعات والمدارس، والملاعب العامة وفي كل أماكن التجمعات، إضافة إلى بث رسائل إعلامية قصير عبر القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية، وتوجيه الكتاب والإعلاميين والتربويين لإعداد مقالات تساعد في توعية الناس عن مبادرة الوقف التعليمي والشراكة المجتمعية، وتكليفهم بإعداد مواد إعلامية، والتعاون مع وزارة الأوقاف لتوجيه الأئمة والوعاظ لعمل دروس في خطب الجمعة عن أهمية الوقف التعليمي والشراكة المجتمعية.

كما أن هناك دورا على مديري المدارس في القطاعين العام والخاص في التوعية والحديث عن أهمية الوقف التعليمي والشراكة المجتمعية، ودعوة كبار رجال الدين ، وأولياء الأمر للمشاركة بذلك، والقيام بعرض النماذج التاريخية والخبرة والتجارب العملية في مجال الوقف الخيري لصالح التعليم لدى المجتمعات العربية والأجنبية الأخرى لاقتباس ما يناسب تطبيقه ميدانياً، واستضافة شخصيات أردنية أو عربية أو دولية أو مدراء مدارس من القطاع الخاص نفذوا بعض المظاهر الوقفية والشراكة في لقاءات تلفزيونية لعرض تجاربها في مجال الوقف التعليمي والشراكة والمجتمعية، والتعاون مع مجالس التطوير التربوي في المدارس والمديريات في ذلك.

إن تبني المؤسسة الدينية والتربوية ممثلة بوزارتي الأوقاف ووزارة التربية والتعليم لمبادرة الوقف التعليمي والشراكة المجتمعية لتصبح مشروع اقتصادي واجتماعي وأخلاقي لتصحيح سلوكيات المجتمع ومساعدته على مواجهة التحديات الحضارية، وتوجيه مزيد من الأموال للبحث العلمي والتكنولوجيا، وتوفير صيانة مستمرة للمباني وتوفير الأجهزة الخاصة بها لتحسين جودة المستوى التعليمي المقدم للطلبة، يساعد من تقليل من مخاطر الاعتماد على التمويل الحكومي الذي يتسم بعدم الثبات ويعتمد في حجمه على الموارد المتاحة وتغير الأولويات من سنة إلى أخرى، كما يسهم في تطوير نوعية التعليم ، وفي رسم مستقبل الأردن الذي نريد.
 

* الكاتب مدير إدارة التخطيط والبحث التربوي سابقا
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير