نشعر بالسعادة، لأننا وجدناه..!
لا تغيب صورة البطل عن مخيلتنا الشعبية، وغالباً ما نستدعيها عند الملمات والظروف الصعبة، انها أشبه بوسادة دافئة نضع عليها رؤوسنا حين نشعر بالتعب، او بطاقة نشحذ بها هممنا لنطمئن على عافية أملنا بالمستقبل، او على تجاوزنا لكثير من الخيبات التي ازدحم بها واقعنا.
البطل يذكرنا دائما بأننا قادرون على الاستمرار، ومحصنون من الانحدار والتلاشي، وصورته تتغلغل في وجداننا لتمحو ما علق بنا من يأس او احباط، حين تغيب قيم العدالة نتذكر الخليفة الفاروق، وحين يغيب الانتصار وتشيع ثقافة الهزيمة النفسية والانكسار نتذكر صلاح الدين، وهكذا، نبحث في الماضي عن رمز للبطل المنقذ والهادي والمخلص.. وغالبا ما نشعر بالسعادة لاننا وجدناه.. ونبحث في واقعنا عن شبيه له، وحين نعجز، لا نفقد الامل ظناً منا ان امتنا ولاّدة للابطال.. او لاشباههم على الاقل.
الان اكثر ما يشغل الذات العربية هو البحث عن بطل، انها مستعدة تماما لاستقباله والاحتفاء به والتضحية من اجله مهما كان الثمن.. واذا لم يكن موجودا في الحاضر فان مخيلتها جاهزة لاستدعائه من الماضي، والاحتماء بظلاله، وتقديسه اذا لزم الامر.
في تراثنا ظلت صورة البطل مرتبطة بالمنقذ والمخلص، واختزلت قيم البطولة في الشجاعة والصدق و الصبر والفداء، وابتدعت ذاكرة الناس اوصافا وسمات، وحتى معجزات، للبطل رفعته الى منزلة اخرى اصبح فيها - احيانا - متجردا من بشريته، وكان للتدين السائد - بالطبع - دور ما في اخراج هذه الصورة.. وتجميلها بما تحتاجه من الوان وتخيلات.
تظل صورة البطل في المخيلة الشعبية ايضا ناقصة ما لم يدخل الآخر الظالم والمعتدي على الخط، عندها تستوفي هذه الصورة هالتها، ويجدد المعجبون صناعتها، ويحيطها التاريخ بألوان من القداسة والاحتفاء، ومواجهة هذا الآخر(الظالم) هنا، او الانتصار عليه هي التي تصنع البطل، وهي التي تحوله - على اخطائه - من مختلف عليه أو - حتى - مكروه الى محل اتفاق واعجاب وخلود، ولا يهم نوع الانتصار هنا ما دام ان البطل حفر في قلوب المعجبين به ما يلزم احترامه.
في ذاكرتنا الجمعية، ثمة أبطال ما كان يمكن ان يصبحوا كذلك، لولا تمردهم على عنجهية الآخر واستبداده وظلمه، فنداء المرأة التي استغاثت دفاعا عن شرفها هو الذي أخرج لنا المعتصم كبطل، وغطرسة الفرنجة هي التي صدرت لنا صلاح الدين الكردي بطلا، ايضا، رغم ان تاريخنا يزدحم برجال عادلين اختزلتهم ذاكرتنا في زاوية الاتقياء أو الحكماء فقط.. لا في زاوية البطولة التي تضفي اكثر من غيرها أجواء من الهيبة والتقدير على أصحابها الغائبين.
بموازاة ذلك فان نزعة الزعامة في قطاع الذات العربية تبدو متضخمة مقارنة بالامم والشعوب الاخرى التي تصالحت فيها "الانا” مع "الهُوَ”، فالإنسان العربي مهما كان وزنه في المجتمع او وظيفته او دوره يتصرف وكأنه "زعيم”، خذ مثلا الرجل في بيته حين يتعامل مع اولاده او زوجته بمنطق المسيطر وصاحب الكلمة الاولى والاخيرة، وخذ ايضا المسؤول حين ينظر الى موظفيه وكأنهم "رعايا” في خدمته، وخذ –ثالثا- المعلم مع طلابه والشيخ مع مريديه والطبيب مع مرضاه.. فمعظم هؤلاء يتحركون في مجالات اتصالهم مع الاخرين الذين تربطهم بهم علاقة مباشرة بوحي الاحساس، "بالزعامة”، فهم يقولون وعلى الاخرين ان ينصتوا ويستمعوا، وهم يقررون وعلى الاتباع ان يفعلوا، وحتى حين يخطئون فعلى هؤلاء ان يبرروا ويتحملوا، ولا بأس ان يمجدوا ويصفقوا ايضا.
لا ادري –بالضبط- من اين خرجت هذه "النزعة” التي اتسمت بها "الشخصية” العربية دون غيرها من شخصيات "الامم”؟، لكن ما اعرفه ان "تراثنا” مزدحم بنماذج الانتصار "للبطل” الفرد، والبحث عن "المخلّص” الرمز، والتمجيد "للزعيم” المتفرد، وفي المقابل لا نجد مثل هذا الاحتفاء للبطولة الجماعية، او للأمة الزعيمة، كما لا نجد في سمات هذه "الزعامة” سواء اكانت للفرد ام للجماعة الا سمات القوة والسيطرة والحزم، وكأن تغييب سمات التواضع او السماحة او اللين تجرح هذه الشخصية باعتبارها اشارات ضعف تتناقض مع صورة "الزعامة” التي تكرست في وعينا باعتبارها نموذجا للقوة والجبروت والسيطرة.
باختصار، يمكن فهم نزعة بروز "الزعامة” او البطولة او استدعائها في سياق "حاجة” المجتمع حين يتعرض لأزمات او مشكلات لا يستطيع الرد عليها او مواجهتها، او في سياق "قابلية” الناس للتسليم والانقياد او رغبتهم الفطرية في "الاستلهام” وبالتالي فان البطل هنا "صناعة” اجتماعية وقد تتحول الى "ضرورة” فتندفع الجماعات الى "خلقها” وابداع ما يلزم من مواصفات لها واساطير حولها للهروب من الحاضر الى المستقبل باقل الخسائر.