بانوراما الحراك.. الفصام السياسي وعباءة الجمود العقائدي
كتب تامر خرمه
في الوقت الذي يتراجع فيه الحراك الشعبي، ينحسر دور بعض القوى السياسية في إطار تبادل الاتهامات ومحاولات امتشاق الخطاب الاستعراضي، لتجد السلطة في مواقف المعارضة من القضايا الخارجية أفضل ما يقوم بدورها في مواجهة الحراك، بل وتصفيته.
ويكفي السلطة أن تواصل الأحزاب الكلاسيكيّة استعراض مواقفها النزقة تجاه الملف السوري، لعزل الشارع الأردني تماماً عن هذه القوى، التي بلغ خطابها المتناقض من الفصام ما يفرض عليها مائة عام أخرى من العزلة التي عانتها طوال العقود الماضية.
المطالبة بالإصلاح والتغيير في الأردن، في ذات الوقت الذي تهدي فيه العباءة الأردنية -دون تفويض من أحد- لمن رفض الإصلاح في سورية، وقابل المطالب الشعبيّة بالقتل والتنكيل، لا يعكس ما تعانيه من فصام الجمود العقائديّ فحسب، بل يجعلك في برجك العاجيّ أبعد ما تكون عن الإمكانيّة الواقعيّة لاحتلال الدور الطليعي في قيادة الشارع الأردني نحو بناء الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة، كما تسوّق في بعض خطاباتك التي تفتقر إلى انسجام الطرح السياسيّ مع المواقف الأخلاقيّة التي يستمدّ الخطاب شرعيّته من الالتزام بها.
ومن جهة أخرى، فإن محاولة الصيد في الماء العكر، عبر التحريض ضد كافّة الأحزاب القوميّة واليساريّة في بعض الهتافات التي شهدتها جمعة "البراءة"، كشفت محاولة استغلال ما حصل لتكريس ثنائيّة الصراع بين السلطة والإسلاميين، وإقصاء كافة الأطراف الأخرى عن ساحة الصراع، التي يسعى البعض لاستثمارها في مقايضة سياسية مع النظام، تستند إلى منطق المحاصصة.
ولا ننس أن تكريس ثنائيّة الصراع بين السلطة والإسلاميين، لن يحقّق في نهاية الأمر أيّ تغيير في المشهد السياسي الأردني، ولا حتى فيما يتعلّق بمصلحة الحركة الإسلاميّة نفسها؛ حيث ترفض السلطة ضمن المعطيات الراهنة، منح الحركة الشراكة السياسيّة التي تنشدها عبر المطالبة بتغيير قانون الانتخاب.
كما أن "التشبيح" لنظام الأسد، لا يختلف في جوهره عن "تمجيد" الرئيس المصري محمد مرسي أو أيّة سلطة تصرّ على تجاهل المطالب الشعبيّة وتتمسّك بـ "نظريّة المؤامرة" لتبرير استبدادها وتنكيلها بالشعب، غير أن أخطر ما في الأمر بالنسبة للساحة الأردنيّة، هو ذلك التناقض في الطرح عندما يتعلّق الأمر بالقضايا الخارجيّة.. فهذا التناقض كفيل بتصفية الحراك، عبر استخدام ذات المبرّرات التي تسوقها القوى الكلاسيكيّة للدفاع عن الدكتاتوريّات في الدول المجاورة، بالتزامن مع تراجع دور وحضور هذه القوى في الشارع الأردني، وانحسار الحراك الشعبي المطالب بالإصلاح والتغيير بعد انتهاء هبّة تشرين.
الجمود العقائدي والتنظير الأيديولوجي الذي تجرّدت مفرداته من دلالاتها اللغويّة، وسقط في أوّل اختبار على أرض الواقع، يشكّل العائق الحقيقي أمام قوى المعارضة التقليديّة، التي لم تتمكن حتى اليوم من الانتقال إلى حالة شعبية تخلّص الحراك من نخبويته التي لن تقود إلى شيء.. كما أثبتت هذه القوى استعدادها للقبول بكافّة السياسات التي تناهضها في حال تمّ تسويقها ضمن عناوين أيديولوجيّة وشعارات نظريّة.
يكاد التاريخ أن يتوجّع من شدّة الضحك، وهو يشهد اصطفاف اليسار في خندق "الشوفينيّة" التي بذل الدماء في مواجهتها.. وطوال العقود الماضية كانت بعض قوى اليسار تنظّر للثورة القادمة، التي ما لبثت هذه القوى أن اعتبرتها مؤامرة، عندما فرض الواقع الموضوعي متغيّراته عبر الربيع العربي.. والمدهش أن بعض القوى "التقدّميّة" بدأت باستخدام "فزّاعة" الإسلام السياسي، للتشكيك بمستقبل هذا الربيع، وهي ذات الفزّاعة التي استخدمتها السلطة في كافة الدول العربيّة لتبرير استبدادها، في الوقت الذي كانت المعارضة ترفض فيه هذا المبرّر وتسخر منه.. كما يضحك الحاضر أكثر وهو يراقب الآخر الذي يتأرجح بين مناوءة نظريّة المؤامرة فيما يتعلّق بسورية، واللجوء لذات النظريّة عندما يدور الحديث حول تطورات الأوضاع في مصر !!
ورغم عبث القوى التقليديّة، فإن الحراك الأردني، شأنه شأن الحراك الشعبي في كافة الدول العربيّة، يشهد تبلور قوى شبابيّة وشعبيّة، قادرة على تجاوز الصيغة الكلاسيكيّة، التي أثبتت فشلها وعجزها عن النضوج الذاتي وإدراك حركة الواقع الموضوعيّة، غير أن بعض الشخصيّات التي التصقت بالقوى الناشئة وطرحت نفسها لقيادة الحراك، مازالت تعاني ذات الجمود الذي كرّس نخبويّة القوى التقليديّة، وفرض عزلتها طوال الفترة الماضية، ما يهدّد نجاح هذه القوى الناشئة في صياغة البديل، وتجاوز الحالة الراهنة.. والمثال الذي يفرض نفسه بقوّة في هذا الصدد هو تيّار التغيير والتحرير، الذي أثبتت عضويّته الشابّة قدرتها على خلق حالة طليعيّة قد تسهم بالارتقاء بالحراك نحو تحقيق أهدافه، غير أن إصرار منسّق التيّار، ضرغام الهلسة، على الحجّ إلى سرايا الأسد، والتصاقه بنظريّة المؤامرة التي بات البعض يستخدمها لمناهضة ثورة طالما انتظرها ونظّر لها، من شأنه أن يجهض تجربة هذا التيّار قبل نضوجها.
تفكيك الخطاب الكلاسيكي وإعادة ترتيب مفرداته بما يحرّر النظريّة من اغترابها عن التطبيق، لا يكفي لصناعة البديل الذي تحاول القوى الناشئة صياغته للخروج من الأزمة وفرض معادلة التغيير، بل تستوجب هذه المهمّة إعادة بناء الأطر التنظيميّة وآليّات العمل بما ينسجم مع معطيات الواقع، عوضاً عن الصيغ الجامدة التي كرّست تفرّد القيادات الكلاسيكيّة عبر اختراع مفاهيم تعصف بتناقض مفرداتها، كـ "المركزيّة الديمقراطيّة"، التي كانت على الدوام وسيلة النخب السياسيّة للانقلاب على كافّة المبادئ، حتى وصل الأمر إلى تمجيد الدكتاتوريّات والتقوقع في عباءة الشخصنة.